تطور التعليم في دولة الإمارات نموذج يحتذى به، وتجربة يمكن الاستفادة منها للنهوض بالتعليم في الوطن العربي الذي شهد تراجعاً ملحوظاً في كفاءة مخرجاته التي أصبحت غير قادرة على مواكبة التطور في مجالات الحياة المختلفة التي تقودها الثورة التقنية والابتكارات، وعلى الرغم من إدراك العديد من الدول أهمية تعزيز قدرات أفرادها وبناء فكر مستنير، فإن الميزانيات والتسهيلات التي تقدمها ما زالت ضئيلة أمام الدعم الذي تقدمه الدول الغربية لبناء جسور المعرفة لأفرداها.
دعم العقول
وحين الحديث عن تجربة دولة الإمارات بوصفها نموذجاً معرفياً، لا يعني أن ذلك بلغته من خلال اهتمامها بإنشاء المدارس والجامعات فقط، بل تحققت هذه القفزات بفضل دعم العقول، والعناية بتطوير تفاصيل المراحل التعليمية، لتواكب النهضة التنموية الطموحة التي تبنتها دولة الإمارات منذ انطلاق الاتحاد، حيث أدرك المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أن نهوض المجتمع وتطوره لا يتحقق إلا بالتعليم، لذلك وضعه في أوليات التنمية.
ولم يبخل المغفور له الشيخ زايد على جميع المشروعات التي أخذت تنهض بالتعليم تدريجياً، لينشأ جيل مؤهل قادر على العطاء وخدمة الوطن، فعند قيام الاتحاد عام 1971 لم تكن الخدمات التعليمية قد وصلت إلى كثير من القرى والحواضر، ولم يكن عدد الطلاب في الإمارات يتجاوز الـ28 ألف طالب، فكان على من يرغب في إتمام تعليمه بعد الدراسة الثانوية الابتعاث إلى الخارج، سواء إلى إحدى الدول الأجنبية أو العربية، للحصول على الشهادة العليا على نفقة الدولة، وفي الوقت ذاته كانت القيادة الرشيدة تعمل بوتيرة متسارعة لإيجاد بنية تعليمية ومرافق وخبرات مؤهلة لتولي زمام الأمور في المستقبل.
مناهج متنوعة
خطة طموحة وضعتها القيادة الرشيدة، حيث بدأت تطوير التعليم وتوفير متطلباته كافة، ليشمل الإناث والذكور، وهو ما شجع ظهور التعليم الخاص الذي تولى مسؤولية تعليم اللغات الأجنبية الإضافية لكثير من المواطنين وأبناء الجاليات المختلفة، إضافة إلى اعتماده مناهج متنوعة لبعض المواد، مثل العلوم والرياضيات وغيرهما، وبفضل الرعاية التي حظي بها، كانت البيئة مثالية للتحول الذكي وخصبة لدعم البحوث والابتكار، ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت مستوياتها تتماشى مع معطيات التكنولوجيا والعلوم.
بيئة جديدة
وإيماناً بأهمية ذلك، أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، مبادرات عديدة وبرامج لرفد الرصيد المعرفي للأبناء التي منها برنامج محمد بن راشد للتعلم الذكي الذي أطلق في أبريل عام 2012، ويستمر تنفيذه حتى عام 2019، ويهدف البرنامج إلى إيجاد بيئة تعليمية جديدة في المدارس الحكومية، وذلك من خلال إطلاق مبادرة «الفصول الدراسية الذكية» التي ستوفر لكل طالب وطالبة كمبيوتر لوحياً، مع إمكانية الوصول إلى شبكات الاتصال اللاسلكية من الجيل الرابع 4G العالية السرعة، وذلك بحلول عام 2019، حيث نال البرنامج إشادة دولية، وجعل الإمارات ضمن التصنيف الأول عالمياً، وفق الدول التي تطبق تجارب مشابهة، إذ تبين من دراسة أجرتها شركة «سامسونغ» العالمية، أن الإمارات هي الوحيدة من بين 11 دولة متقدمة، جعلت «التعلم الذكي» مشروعاً وطنياً، مدعوماً بإرادة سياسية وتطلعات مجتمعية واسعة الأفق والنطاق.
استراتيجية جديدة
النهوض بمستويات الأجيال معرفياً وفكرياً أفكار طموحة وضعتها القيادة الرشيدة لمواكبة التطور، وكانت إحدى نتائجها إعلان الدولة عن اعتمادها استراتيجية جديدة في مجال العلوم والتكنولوجيا والابتكار، خصصت لها استثمارات بقيمة 300 مليار درهم إماراتي، حيث تتضمن الاستراتيجية الجديدة 100 مبادرة في قطاعات الصحة والتعليم والطاقة والنقل والفضاء والمياه والتكنولوجيا، وتندرج في إطار استعدادات الدولة لمرحلة ما بعد النفط. وتشمل الاستراتيجية الجديدة إنشاء صناديق تمويل للعلوم والأبحاث والابتكار، وإعادة النظر في كل التشريعات الاستثمارية، للتشجيع على نقل التكنولوجيا، ودعم الابتكار، وإنشاء شراكات تعاقدية تصنيعية عالمية.
قصور في دعم البحوث العلمية
النهضة التعليمية التي خطتها الدولة منذ قيامها وتجربتها الفريدة في مواكبة التطور والتقدم العالمي يمكن الاستفادة منهما في مواجهة المشكلات التي يعانيها واقع التعليم في الوطن العربي، والتي تتصدرها أزمة الأمية التي تطارد ملايين الأشخاص الذين غالبيتهم من النساء، خصوصاً مع تضاعف أعدادهم في الوقت الحالي، نظراً إلى الظروف الراهنة التي تمر بها المنطقة من حروب واضطرابات أمنية، إضافة إلى الاستفادة منها في مواجهة العلل الكثيرة التي أصابت العملية التربوية في جذورها، كتهميش البحث العلمي والتفكير الإبداعي، وسيادة التعليم التلقيني، والتقليل من شأن المهن اليدوية، والابتعاد عن العلوم التقنية، والفنون الجميلة، والفلسفات الحديثة.
كما يمكن من خلال التجربة المتميزة للدولة وبنيتها التعلمية مواجهة العقبات التي أسهمت في ضعف حلقات التعليم وروح الابتكار في محيط الوطن العربي الذي فقد مكانته، لأنه ابتعد عن واقع الحياة، وانشغل في عملية حشو المعلومات في أذهان اليافعين، حيث أصبحت عملية التعليم رهينة الكتاب الذي غالباً يخلو من الحقائق، والمعلم الذي لا تؤهله خبراته في التعامل مع عقل الطالب بصورة جدية، إذ يتطلب تبديل مفهوم التعليم في العصر الحالي من مجرد مادة يتلقاها الطالب إلى معرفة أساسية، تمثل قوة دافعة وتضيف لها خبرة في التعامل مع شتى مناحي الحياة التي بسطت فيها العولمة نفسها، والتي يتطلب الحصول عليها ثقافة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.