لا ريب أن ظهور وسائل التواصل الحديثة أحدث طفرة نوعية في الاتصال بين الأفراد والجماعات، ونتج عنها ممارسات وتأثيرات سلبية وإيجابية انعكست بمجملها على المجتمع عموماً، وعلى الأسرة بصفة خاصة، وإن كانت درجة التأثير مرتبطة بحبل متين بالكيفية التي تستخدم وتستثمر فيها تلك الوسائل، حيث إن الفاصل بين إيجابية التكنولوجيا وسلبياتها في العصر الحديث، يتوقف على طريقة استخدام الفرد لها.


أمام هذه التقنيات التي أصبحت سلاحاً ذا حدين، وتغزو مجتمعاتنا وبيوتنا وعقول أجيالنا دون استئذان، يرى عدد من المختصين والخبراء والناشطين في هذا القطاع أنه بالرغم من فوائدها التي لا تخفى على أحد منا، إلا أن كفة سلبياتها رجحت على إيجابياتها، لا سيما بعد أن باتت هذه الوسائل والقنوات مرتعاً لأصحاب النفوس الضعيفة، والمتطرفين أصحاب الأجندات المشبوهة لنشر أفكارهم وبرامجهم المسمومة، واصطياد الضحايا عبر ابتزازهم وتخييرهم بين الستر مع دفع المال، أو الفضيحة، حتى بتنا نشهد ما يسمى الآن «الإرهاب الإلكتروني»، والجرائم الإلكترونية.


في السنوات القليلة الماضية تحولت قنوات التواصل إلى فخاخ للنصب والابتزاز المادي بطرق شتى، أبرزها الفضائح الجنسية التي تديرها عصابات منظمة من خارج الدولة، من خلال استخدام مختلف الوسائل المتاحة لديها للإيقاع بضحاياها وتحقيق مكاسب مادية بأي طريقة كانت.


إساءة استخدام
القاضي جمال السميطي، مدير عام معهد دبي القضائي، قال: للأسف الشديد فإن البعض يسيء استخدام وسائل التواصل لأغراض سلبية، نتيجة قلة الوعي بالمخالفات القانونية التي ترتكب عبر تلك الشبكات، فضلاً عن النقص التشريعي في معالجة المخالفات والانتهاكات التي ترتكب عبرها، وقد نشأت علاقات قانونية متضادة ومتعارضة في هذا الشأن؛ لأن حرية الرأي والتعبير والكتابة مكفولة في الدستور في حدود القانون (المادة 30 من الدستور)، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وكل إضرار بالغير يلزم فاعله بالتعويض.


وفيما يتعلق بسمات المخالفات التي ترتكب على شبكات التواصل الاجتماعي، أضاف السميطي: سهولة ارتكابها «عن بعد» خاصة وأن الإنسان كلما انفرد بنفسه فإن نسبة ارتكابه للمعاصي تزيد وكذلك الجريمة والانتهاكات، كما أن المخالفات تنشأ صغيرة وسرعان ما تمسي آثارها كبيرة، وتمس السمعة وحقوق الملكية الفكرية، وتنازع القوانين، في ظل جهل مرتكبها بمخالفته وجهل المجني عليه بها.


عقوبة الجرائم
وبشأن عقوبة مثل هذه الجرائم تابع: جرَّم مرسوم بقانون اتحادي رقم 5 لسنة 2012 في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، الابتزاز (التهديد) الالكتروني، وذلك في صورتين، إحداهما غير مشددة والأخرى مشددة؛ أما غير المشددة فتنص الفقرة الأولى من المادة السادسة عشرة من المرسوم بقانون «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين والغرامة التي لا تقل عن 250 ألف درهم ولا تجاوز 500 ألف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من ابتز أو هدد شخصا آخر لحمله على القيام بفعل أو الامتناع عنه، وذلك باستخدام شبكة معلوماتية أو وسيلة تقنية معلومات».
 

وفي صورتها المشددة، نصت الفقرة الثانية من المادة السادسة عشرة من المرسوم بقانون (يعاقب بالحبس وتكون العقوبة السجن مدة لا تزيد على عشر سنوات إذا كان التهديد بارتكاب جناية أو بإسناد أمور خادشة للشرف أو الاعتبار). و«يستوي أن يوجه الجاني تهديده بارتكاب جناية أو بإسناد أمور خادشة للشرف أو الاعتبار إلى المجني عليه أو يوجه إلى شخص آخر ممن تربطه بهم علاقة وثيقة، ومن أمثلة ذلك، تهديده بإيذاء أحد أبنائه؛ لأن علة التجريم متحققة في هذه الحالة».
وأكد القاضي السميطي أن المتطرفين في آرائهم يغفلون أنه حتى في أكبر الأنظمة الديمقراطية لا توجد حرية مطلقة من دون ضوابط وقيود.


33 % أوسطية
وفي هذا الصدد حذر الدكتور معتز كوكش، الخبير في تقنية المعلومات ومواقع التواصل الاجتماعي، من خطورة التعاطي مع هذه القنوات في ظل الدراسة التي أعلنتها مؤسسة «تكنولوجي جيت» البريطانية، التي أشارت فيها إلى ارتفاع معدل جرائم الابتزاز الإلكتروني عبر الإنترنت في منطقة الشرق الأوسط بنسبة 33%.

وأوضح كوكش أن جرائم الابتزاز التي يتم تنفيذها عبر مواقع التواصل باتت منظمة وممنهجة ومدروسة من قبل عصابات دولية تقيم خارج الدولة، وتستهدف الايقاع والتغرير بالذكور بالمقام الاول، خصوصاً الذين يشغلون مناصب قيادية ومرموقة في عدد من المؤسسات، أو الإعلاميين والصحفيين وأصحاب الحسابات الكبيرة في «فيسبوك» الذين لديهم متابعات كبيرة من فئات المجتمع حتى يسهل عليهم ابتزازهم بحكم أن تلك الفئة تحرص على سمعتها بشكل كبير.


إرهاب إلكتروني
وتوقف عند ما بات يعرف بالإرهاب الإلكتروني المتمثل بولوج الجهات المتطرفة والإرهابية إلى شبكات التواصل الاجتماعي لنفث سمومهم ونشر الفكر العنيف والمتطرف في نفوس الشباب المغرر بهم، مرجعاً ذلك لسهولة استخدامها وانتشارها الواسع بين الشباب بسرعة هائلة خصوصا أن عدد مستخدمي فيسبوك العرب وصل إلى 80 مليوناً.


وقال: تغيرت النظرة الى الإرهاب الإلكتروني، التي كانت منحصرة بالأعمال التخريبية كهجمات الكترونية على مواقع الانترنت وصفحات التواصل الاجتماعي لمؤسسات إعلامية وحكومية، وأصبحت تشمل أنشطة أكثر خطورة، تمثلت في الاستخدام اليومي لشبكات التواصل الاجتماعي من قبل المنظمات الإرهابية لتنظيم وتنسيق عملياتهم المتفرقة والمنتشرة حول العالم، كما أن مهمة هذه الجماعات تجنيد الشباب عبر زرع الفكر التطرفي الالكتروني ثم تجنيدهم، ويقع عادة الشباب اليافعون ضحية لذلك، موجهاً النداء إلى كل أب وأم لمراقبة أبنائهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي وغرف الدردشة، وإلى كل الأكاديميين في الجامعات لتحذير طلبتهم من خطر هذه الجماعات الإرهابية.


جرائم متزايدة
قال خليل آل علي، من الإعلام الأمني في شرطة دبي، إن جرائم الابتزاز الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي ارتفعت خلال العامين الماضيين، فوصل عدد البلاغات في 2013 إلى 80 بلاغاً، وإلى 212 في 2014، فيما سجلت الشرطة 59 قضية في 2013 مقابل 73 في العام التالي، موضحاً أن هذه القضايا تتعلق بجرائم الابتزاز الجنسي ومصدره من خارج الدولة.


ضحية
قربت البعيد وأبعدت القريب


قالت فاطمة السجواني، استشارية نفسية، إن سلبيات مواقع التواصل الاجتماعي ونتائجها وخيمة على أفراد الأسرة. وأضافت: جهاز بحجم كف اليد، نلج من خلاله إلى مواقع كثيرة تصلنا بالبعيد وتنسينا التواصل مع القريب، والضحية حياتنا الاجتماعية والإنسانية. وأوضحت أن أبناءنا باتوا يتهافتون على استخدام تلك المواقع والشبكات، ما أضعف تحصيلهم الدراسي والتركيز والانتباه لديهم، لافتة إلى أن البعض يعاني من صداع مزمن لإدمانه مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي.


فجوة
شبكات التواصل تسبب الإدمان


أوضح عبدالله سيف، خبير التطوير والتنمية البشرية، أن دراسات كثيرة أكدت أن شبكات التواصل تسبب الإدمان، فالشخص هنا قد يفقد جزءاً من الحياة اليومية، وتكون جُل علاقاته افتراضية، ما يؤدي إلى حدوث فجوة في تواصله مع أفراد أسرته. وأضاف: هناك مشاهير أقفلوا حساباتهم لأنها سببت لهم الإدمان، مبيناً أن التواصل عبر هذه الشبكات يؤدي إلى خلق جيل جديد أسميه «جهاز عصبي أرضي»، بمعنى أنه يوجه مشاعره وكل ما يعتريه عن طريق تلك المواقع والشبكات.


أسر تتفكك وساحات المحاكم شاهدة على الكثير


أوضح المحامي والمستشار القانوني حسن المرزوقي، أنه في عالم مليء بالتحديات ومع التطور العلمي الرهيب وظهور تقنيات حديثة تسببت في قلب الموازين والمفاهيم الاجتماعية لدى مجتمعاتنا العربية تحديداً، وفي نطاق انتشار العولمة في غياب المضمون الثقافي؛ انتشرت في الآونة الأخيرة العديد من مواقع التواصل الاجتماعي، وكعادة مجتمعاتنا العربية لم نأخذ من هذا التطور التكنولوجي إلا أسوأ ما فيه. وأضاف: التعميم هنا لا مجال له، لكنه مقصور على عدد محدود من أفراد مجتمعاتنا العربية، لدرجة انتشار الظاهرة من مجرد حالات فردية إلى ظاهرة جماعية تنتشر انتشار النار في الهشيم، وقد امتلأت ساحات المحاكم نتيجة ذلك.


هاتف ذكي
وأشار إلى أن أغلب أفراد المجتمعات العربية يمتلكون حسابات شخصية على كافة مواقع التواصل الاجتماعي، التي يسهل استخدامها بواسطة أجهزة الهواتف الذكية. وبنظرة سريعة وعميقة على ما يدور داخل كيانات الأسر العربية نستشف من خلالها الخطر المحدق الذي يهددها من جراء إدمان أحد الزوجين أو كليهما على مواقع التواصل الاجتماعي، وما ينشأ عن ذلك من علاقات مُحرمة تحت مسمى الصداقة! وللأسف هذا ما ينجذب إليه كلا الزوجين للبحث عن عالم افتراضي وخيالي وللبحث عن المتعة المحرمة، ومع تكرار تلك العلاقات التي تبدأ برسائل نصية قصيرة، مروراً بتبادل الصور الشخصية ومقاطع الفيديو، لتنتهي بما لا تحمد عقباه، وهو الوقوع في آتون الرغبة الجامحة والحصول على ما هو ممنوع. ليصبح أحد الزوجين أو كلاهما أسيراً للعزلة والسرية الإلكترونية الذي توفره غرف الدردشة والمواقع المشبوهة، ولا يجد أحدهما مفراً من ذلك إلا بولوج ساحات المحاكم وطلب الطلاق للضرر ووقوع الطرف الآخر تحت طائلة القانون لارتكابه جريمة من الجرائم الإلكترونية المنصوص عليها طبقا لقانون الدولة.
 

تطليق الزوج
ولأن ساحات القضاء مليئة اليوم بتلك النوعية من القضايا يذكر المحامي والمستشار القانوني المرزوقي منها على سبيل المثال؛ أن أحد الأزواج، وهو رجل أعمال عربي وثري، قدم بلاغاً أمام النيابة ضد زوجته ورفع دعواه أمام المحاكم الشرعية بالإمارات بتطليقه من زوجته لإنشائها علاقات محرمة مع غرباء عن طريق مواقع التواصل، وقد علم بذلك عن طريق أحد مكاتب جلب الخادمات، حيث اتصلت مديرة المكتب لتعلم الزوج أن خادمته لا ترغب بالاستمرار في العمل في شقته، وبسؤالها عن سبب ذلك أجابته بعد تردد أنها تشاهد أفعالاً مخلة بالشرف تحدث في بيته! وبالاستفسار والتحري تبين أن لزوجته صداقات مع نساء ورجال عبر مواقع التواصل الاجتماعي، قادت إلى مقابلات وسهرات وممارسة ما هو محرم شرعاً وقانوناً. وفي النهاية أصدر القضاء حكمه بحبس الزوجة لما ارتكبته من أفعال مخلة بالشرف من خلال استخدامها السلبي، وتم تطليق الزوج من زوجته.


السب والشتم
في طرف موازٍ؛ حذر قانونيون من مغبة إساءة استخدام وسائل التواصل في نشر وإشاعة معلومات كاذبة، داعين إلى بذل جهد قانوني واجتماعي وتوعوي لمحاربة الظواهر السلبية الناجمة عن الممارسات الخاطئة في التعامل مع هذه الوسائل.


وأشاروا إلى أن القانون الاماراتي اعتبر السب والشتم الذي يتم عبر وسائل التواصل جريمة، وهو ما أورده في المادة 20 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، التي تنص على أن سب الغير باستخدام شبكة معلوماتية أو وسيلة تقنية معلومات، جريمة يعاقب عليها بالحبس والغرامة التي لا تقل عن 250 ألف درهم ولا تجاوز 500 ألف درهم، أو بإحدى العقوبتين، فيما تشدد العقوبة إذا وقع السب أو القذف في حق موظف عام أو مكلف بخدمة عامة بمناسبة أو بسبب تأدية عمله.


وأكد المحامي علي العبادي أن إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر» وغيرها، في السب والقذف، يعتبر جريمة تعرض صاحبها للمساءلة القانونية والعقاب في حالة الإدانة. ولفت إلى أنه في حالة ثبوت الحق العام يستطيع المتضرر رفع دعوى تعويضية للمطالبة بالأضرار، ويكون الحكم فيها وفقاً لظروف القضية، كما أنها تعد جنحة في حال عدم توافر بنود القذف شرعاً.


ونوه بأهمية تعريف وتوعية الجمهور بالآثار القانونية المترتبة على سوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على ضوء مرسوم بقانون اتحادي رقم (5) لسنة 2012 في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، لافتا الى دور الحملات التوعوية في التعرف على ماهية القانون، وعدم العذر بالجهل، والتعرف على المجرم المعلوماتي أنواعه وخطورته وعقوبته.


واقع موازٍ
من جانبها قالت المحامية فايزة موسى إن استخدام وسائل التواصل بالشكل السليم والأمثل، يعزز العلاقات بين الناس، وإن وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد ترفيهية فقط بل باتت وسيلة إعلامية سريعة وواقعاً افتراضياً موازياً لحياتنا الواقعية، مشيرة إلى أن دخول بعض الظواهر السلبية عليها، جعل من تلك الوسائل منبراً لنشر الأكاذيب والأقوال المغرضة والمحرضة.


وأضافت: يجب على الآباء والأمهات مراقبة أبنائهم عند استخدامهم وسائل التواصل، وتجنب نشر أو تداول الشائعات عبر الانترنت أو الهواتف المتحركة، لما لها من أثر سلبي على الأفراد والمجتمع، وإن سوء استخدام الشبكة المعلوماتية أو وسيلة تقنية المعلومات يعرض مستخدمها للمساءلة القانونية وفي حال إدانته يتعرض لعقوبات تصل إلى الحبس والغرامة.


طلاق
أشار عبدالله سيف، خبير التطوير والتنمية البشرية، إلى تطليق زوج زوجته بعدما اكتشف مصادفة وجود حساب لها على «تويتر»، فطلب منها إلغاءه، فرفضت وأصرت على موقفها، حينها لم يتمالك الزوج نفسه فألقى عليها يمين الطلاق لتذهب إلى بيت والدها! وأكد مقربون من الزوجين أن مساعي الإصلاح توصلت إلى أن يقدم الزوج مبلغاً لإرضاء زوجته مقابل أن تلغي حسابها الرسمي على «تويتر»، لكنها رفضت وتمسكت برأيها.