مواقف وأحداث وقصص يذكرها التاريخ وتنبئ عنها الأيام في شأن قائد عظيم أسس لنهضة إمارة دبي بفضل قيادته الرشيدة وحنكته التي جعلت منه شخصية قل تكرارها.. هكذا كان المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم رحمه الله، الذي سجلت شهادات من عاصروه في حقه عناقيد ضياء تضيء جوانب كثيرة في شخصية رجل طالما كان علامة فارقة في تاريخ ونشأة الإمارات، ومن ضمن هؤلاء الحاج سعيد بن أحمد آل لوتاه مؤسس ورئيس مجموعة (س.س) لوتاه، ومؤسس بنك دبي الإسلامي، والذي ربطته بالشيخ راشد مواقف متعددة من خلال مرافقته له بمجلسه وجولاته، التي كانت لا تهدأ يومياً للاطلاع على ما وصلت إليه إمارة دبي من تطور وتقدم في كافة المجالات.

 فخر واعتزاز

 وبكلمات ملؤها الفخر والاعتزاز بمكانة الشيخ راشد، مؤسس النهضة الحديثة لإمارة دبي وأول من أرسى دعائم دولة الاتحاد مع أخيه المغفور له الشيخ زايد ،طيب الله ثراه، فتح الحاج سعيد لوتاه خزائن ذكرياته، يخبرنا عنها ليروي جوانب من شخصية استثنائية، يكن لها كل تقدير واحترام، موضحاً أنه كان للشيخ راشد خمسة مجالس يومياً، تبدأ بمجلس بعد صلاة الفجر، يليه مجلس فترة الظهيرة، ومجلس العصر، ثم مجلس المغرب وأخيراً مجلس في الليل، مشيراً إلى اهتمام المغفور له بالمجالس، والتي كان يتواجد بها أشخاص من جنسيات متعددة، حيث كان المجلس يمثل منتدى لمناقشة المشروعات بالإمارة ودراستها باستفاضة، وكان الشيخ راشد محاطاً بمن يثق في رأيهم، ولذلك فقد كان يعتمد كثيراً من القرارات داخل هذه المجالس، لافتاً أنه كان يحضر كثيراً منها مع العديد من الشخصيات من أهل الخبرة والمشورة، الذين كانوا يتطلعون دائماً للتعلم من المغفور له، كيفية إدارته للأمور.

 مجالس الفجر والمساء

 وذكر أنه كان دائماً ما يحضر مجلس الفجر والليل، وأن معظم الجلسات التي كانت تجمعهم بالشيخ راشد كانت في المساء، بعد أن يكون عاد من متابعاته اليومية لأمور الإمارة والدوائر التي تعمل على تنفيذ المشروعات فيها، موضحاً أن المغفور له كان حريصاً أن يشاركهم قضاياهم وينصت بتركيز لمطالبهم، ولذلك فقد تعلم منه ومرافقوه كيفية وحسن الاستماع للناس والتعرف على مطالبهم وتلبيتها، فقد كان يتحلى بصبر وحلم كبيرين في هذه المجالس، إذ كان يصغي باهتمام شديد لكل رأي أو مظلمة ويحرص على توفير المساعدة المناسبة لكل فرد، مؤكداً أن هذه الصفات القيادية التي كان يتحلى بها كانت بوصلة لهم كأصحاب أعمال توجههم لكيفية التصرف السليم في أمور تسيير مشروعاتهم، وأن الشيخ راشد رحمه الله كان يواصل بمجهوده الكبير ورؤيته الثاقبة، البناء بكل إرادة وعزم وكان على يقين بأن كل ما يقوم ويحلم به في بناء إمارة عصرية سوف يكتب له النجاح.

 بنك دبي الإسلامي

 وتطرق لوتاه إلى بدايات إنشاء بنك دبي الإسلامي، موضحاً أنه في أحد أيام رمضان كان عند المغفور له الشيخ راشد، وأخبره أنه بصدد تأسيس بنك إسلامي، وتناقشا بالموضوع ثم أبدى ملاحظاته، مضيفاً أنه لم يكن يعرف أن المغفور له لديه كل هذه المعلومات والأفكار عن البنوك الإسلامية، وإنه بعد هذا الحديث بساعتين ونصف منحه الشيخ راشد تصريح البنك، مشيراً له بالذهاب لإنجاز المهمة، وبالفعل بدأ بتنفيذ الفكرة والعمل عليها اقتصادياً من خلال عرض آرائه على خبراء متخصصين في الفكر الاقتصادي الإسلامي، مضيفاً أنه بدأ مرحلة العمل الفعلي، عبر الاتفاق على وضع نظام أساسي لبنك دبي الإسلامي، والانطلاق لتجميع مؤسسين طبقاً لما تقضي به القوانين المعمول بها في مثل هذه الحالات.

 رفض الموافقة

 وفي هذا الاتجاه قال إنه قدم طلب ترخيص البنك لمؤسسة النقد بدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث لم يكن البنك المركزي قد أنشئ بعد، لكن المؤسسة رفضت الموافقة على إصدار تصريح بالبنك مطالبين إياه بتغيير المسمى من بنك إلى مؤسسة تجارية.

وأبان أن الشيخ راشد بمجرد علمه بذلك الأمر، حتى أصدر أوامره إليهم باعتبار بنك دبي الإسلامي مؤسسة مصرفية إسلامية تعمل ضمن دائرة البنوك التي تمارس العمليات المصرفية بالدولة، لافتاً أنه لن ينسى للشيخ راشد هذا الموقف العظيم الذي شد من أزره وجعله يتخطى هذه العقبة، ومن ثم جاءت موافقة مؤسسة النقد بالترخيص ومزاولة مختلف الأعمال المصرفية.

 مد يد المساعدة

 وعرض الحاج سعيد موقفاً آخر جمعه بالمغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، عندما جاءه في أحد الأيام مدير البنك قائلاً له إن هناك سحباً لمبلغ بقيمة 10 ملايين درهم غداً، وأنه لا يوجد بالبنك هذا المبلغ، متسائلاً عن كيفية تدبير هذا الأمر، واسترسل الحاج سعيد قائلاً إنه بالفعل كان هذا الموقف المشكلة الوحيدة التي واجهتهم بالبنك آنذاك، حيث لم تكن هناك بنوك إسلامية للاقتراض منها، ولم يكن لديه اتفاقيات مع بنوك أخرى، موضحاً أنه لجأ إلى الشيخ راشد ـ رحمه الله ـ وأبلغه، فما كان منه إلا أن قدم له المبلغ مشكوراً، مبيناً أن المغفور له لم يتأخر يوماً في مد يد المساعدة في أي يوم من الأيام، وكان دائماً يقدم كل أشكال الدعم والمساندة.

 مواقف ثابتة

وذكر لوتاه أن المغفور له الشيخ راشد كان يكره الكذب بشدة، وكانت إحدى الجلسات جمعتهما، عندما سأله المغفور له عن مدى علمه واطلاعه على السياسة وشؤونها، فأجابه الحاج سعيد أنه لا يعلم عنها شيئاً، خاصة أنه يعرف ما فيها من تدوير وقلب في الحقائق والمعلومات لتسيير المواقف والأمور، وقد كان هذا ديدن السياسيين، ولذلك فقد تعجب الشيخ راشد حينها من الواقع الذي تسود فيه مثل هذه الصفات، موضحاً أن مثل هذه المواقف تبين بجلاء مدى حرص الحاكم على تحري الحقيقة، وإيمانه بمواقفه الثابتة التي لا مراء فيها، مؤكداً أن ذلك ما كان عليه المغفور له الشيخ راشد،رحمه الله، في كل مواقفه.

مشاريع عملاقة وبنية تحتية صلبة

 مع بدايات نشأة دبي كان هناك كثير من المشاريع التي كانت الإمارة بدأت لتوها تنفيذها والتي كانت تعتبر حينها تحدياً كبيراً، ويأتي على رأسها، مستشفى آل مكتوم الذي كان يعد حينها خطوة كبيرة نحو تكريس خدمات صحية جيدة، وجاء مشروع جسر آل مكتوم مكملاً للقاعدة الرئيسية للبنية التحتية لمدينة دبي الحديثة، وبعد افتتاحه في 1963 ربط بر دبي مع ديرة مباشرة مجنباً السكان عناء الالتفاف حول رأس الخور، بالإضافة إلى مطار دبي الدولي الذي حقق نقلة تجارية كبيرة للإمارة خاصة مع نمو الطلب على السفر واستقبال دبي لأعداد كبيرة من الوافدين لمواكبة النمو الحاصل حينها، ومع استمرار هذه الإنجازات، تأكد أن التخطيط للبنية التحتية لدبي كان بمثابة رؤية مستقبلية تجسد أفكار المغفور له الشيخ راشد الطموحة للتطوير المستقبلي لمدينة دبي.

 خور دبي

 بدأت في عام 1959 عملية تجهيز خور دبي للملاحة بتجريفه وسحب الطمي منه، حيث كان تراكم الطمي في فترة الخمسينات يتم بشكل متسارع ما أدى إلى انخفاض كبير في حركة الملاحة فيه، وكان على السفن انتظار المد حتى تتمكن من دخول الخور وبقيت بعض قوارب الصيد تعبر الخور بين فترة وأخرى، وبعد أن تم الوصول إلى العمق المطلوب حتى تم رصف جانبي الخور بالصخور والتربة الرسوبية ليرتفع مستوى جانبي الخور عن مستوى المياه، وبحلول عام 1960 تم إنجاز مشروع خور دبي، وبدأت بعد ذلك خطوط الملاحة تتوافد إلى دبي معتمدة الخور كميناء رئيسي، خاصة بعد تزايد حركة السفن، واستجابة للحاجة الملّحة تم البدء بالعمل على إيجاد أرصفة بحرية ومستودعات وتوسيع الخدمات الخاصة بتحميل وتفريغ السفن، كما تم توسيع وتطوير مرافق الخدمات الأخرى بالميناء.

 الكهرباء والمياه

 وفي ذات الفترة أصدر المغفور له مرسوماً بتأسيس شركة الكهرباء وأمر ببدء العمل الفوري في إنشاء مطار دبي ولعل إصرار الشيخ راشد على تأسيس شركة الكهرباء في وقت مبكر من اعتلائه سدة الحكم كان نابعاً من إيمانه بضرورة توفير الخدمات الأساسية لسكان دبي، وكان معظم الناس في المدينة يملكون مولدات خاصة بهم، وبالفعل تم إنشاء شركة الكهرباء العامة في عام 1959 وحصلت دبي على أول إمداد كهربائي في عام 1961، واستشعاراً منه بأهمية هذا المرفق الحيوي كان الشيخ راشد يترأس مجلس إدارة الشركة شخصياً، وفي عام 1960 أمر بإنشاء شركة التليفون والبرق واللاسلكي جنباً إلى جنب مع شركة كهرباء دبي، وكان يشرف شخصياً على الشركة باعتباره رئيساً لمجلس إدارتها.

 منهج خاص

 الشيخ راشد كان يتبع منهجاً خاصاً في إدارة شؤون وتسيير شؤون إمارة دبي خاصة أنه كان يباشر كافة الأعمال التي تدور بنفسه، لافتاً أن ذلك المنهج استمر طيلة فترة حكمه، حيث كان يقوم بجولتين في مدينة دبي يومياً يتابع خلالهما المشروعات، والأعمال التي تحدث على الأرض، وكان من عادته ألا يكتفي بالشرح الموجز، بل كان يسأل عن أدق التفاصيل لأي مشروع قيد التنفيذ في دبي، وكان يتابع كل شيء بنفسه، ولقد مثلت هذه الطريقة فرصة عظيمة له للتقرب من أبناء شعبه والالتقاء بهم بشكل يومي للاطلاع على أمور حياتهم ومطالبهم، ما كان له الأثر الكبير في نفوسهم.

 مياه الشرب

 من بين أهم منشآت البنية التحتية والخدمات الأساسية التي عمل الشيخ راشد على إقامتها مشروع توفير مياه الشرب لدبي، وقد بدأت الخطوة الأولى في هذا المشروع بعمليات التنقيب عن المياه من خلال أعمال المسح الجيولوجي لبئر منطقة العوير وكفايتها لسد احتياجات دبي من المياه وتبين في النهاية أنها قادرة على إرواء ظمأ دبي، وفي غضون أشهر قليلة من ظهور النتائج الإيجابية للمسح الجيولوجي تم مد الأنابيب لإيصال المياه النظيفة إلى المنازل.