بعد رحلة حافلة بالعطاء والإنجازات امتدت أكثر من 120 عاماً، شكّل خلالها ظاهرة رائدة تستحق التقدير والدراسة والتوثيق، بصفته واحداً من الرواد الأوائل، ترجل أمس مصبح عبيد الظاهري، أول رائد من رواد الصحافة، صاحب أول مشروع صحفي في الدولة منذ أكثر من 80 عاماً، بالتحديد في عام 1934، عندما علّق على واجهة المقهى الوحيد في سوق مدينة العين القديم قطعة من الورق المقوى من بقايا الكرتون الذي تخزن به المواد الغذائية، اسمها «النخي»، استقاها من الحمص المسلوق الذي كان يبيعه في المقهى لرواده من الفقراء والعمال والمغتربين.

كتب فيها حينذاك مقتطفات من الأخبار القصيرة، ولم يَدُرْ في ذهنه أن قطعة الكرتون هذه أدخلته ذاكرة المكان والزمان، ليصبح أول من أصدر صحيفة بالمعنى العام والفطرة كُتبت بخط اليد، باتت شغل الناس، مستفيداً من قدرته على الكتابة، حيث كان هدفه الأول من تلك الصحيفة الترويج لبضاعته من النخي وفوائده، وكانت أشبه بالإعلان، وبذلك يكون أول صاحب إعلان صحفي أيضاً، كما أنه كان أول من بنى بناية من الطين وسعف النخيل، وأول من افتتح مغسلة للثياب، ليكون من أوائل التجار، حيث جمع، رحمه الله، ثروة وعدداً من المشاريع التجارية داخل الدولة وخارجها، وكان أول من أدخل آلة «البشتخة» (أسطوانة الموسيقى)، وأول من أدخل الراديو، حيث كان الناس يتجمعون حول الراديو وهم يتوجسون خيفة منه، ظناً منهم أن بداخله جنّياً.

عاش مصبح عمره أعزب، من دون زوجة أو أبناء، تزوج مرة واحدة منذ 80 عاماً أياماً عدة فقط، ولم يُعدْ التجربة، وتعرض في آخر أيامه لعملية نصب واحتيال من أحد الأشخاص المقربين، كانت حديث الناس والمحاكم.

بالعودة إلى السيرة الذاتية للراحل، فهو من مواليد 1896، وقد عايش تطورات كثيرة شاهدتها المنطقة، حيث عاش في زمن الشيخ خليفة بن زايد الأول، الذي يعود إليه الفضل في رعايته وتعليمه مبادئ القراءة والحساب اللذين كانا سلاحه في ولوج عالم الثراء والشهرة بين أقرانه، حيث كان يفك طلاسم خطوط رسائل العشاق والمحبين والمغتربين ويقرؤها عليهم.

كتب عنه الإعلامي اللبناني علي عبود مقالاً في إحدى الصحف اللبنانية منذ أكثر من 60 عاماً، حيث زاره في منزله بمدينة العين، مستعرضاً تجربته الإعلامية البسيطة بصفته أول إعلامي بالفطرة، فهو لا يمتلك آية فكرة عن تقنيات الصحافة والإعلام، إلا أنه كان مستمعاً جيداً لإذاعة لندن وصوت العرب من القاهرة، وكان مولعاً بتعليقات أحمد سعيد زمن الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.

كتب في جريدته الخاصة «النخي» مقالاً وحيداً في السياسة، وكانت هي المرة الوحيدة، ولم يكررها تارة أخرى، حيث غضب منه الإنجليز حينذاك، عندها توقفت الجريدة الوحيدة والفريدة بالشكل والمضمون ليتفرغ للتجارة، فكان بعدها تاجراً بارعاً جمع من خلاها ثروة كبيرة.

وعن عزوفة عن الزواج، قال لي ذات مرة خلال زيارة خاصة له في منزله في منطقة المعترض بالعين: «تصدّق، لو أنني تزوجت لفقدت حياتي من زمان ولم أعش لهذه الأيام». لقد جرب الزواج مرة واحدة في حياته منذ أكثر من 80 عاماً، ولم يستمر الزواج سوى أشهر قليلة، فالمرأة، كما قال، لا تشكّل في حياته هاجساً أو حاجة، وقضى حياته في رعاية الأيتام والمعوزين من أقاربه.

يروي، رحمه الله، في ذكرياته أن مقهى «النخي» كان مكان التجمع الوحيد لأبناء مدينة العين الذين كانوا يأتون لشرب الشاي والسهر تحت ضوء القمر من الجاهلي والمويحعي والمعترض ومنطقة البريمي، إضافة إلى عدد من العسكر الإنجليز، وكانوا أيام البرد يلتحفون أكياس الرز الخالية، ويفترشون بقايا علب الكرتون، حيث كانوا يتبادلون القصص والحكايات والأشعار حتى أذان العشاء.

وقد خطر بباله كتابة بعض الأخبار التي كانت ترد من دول الجوار ومن المسافرين وبعض الأشعار والحكم على قطع الكرتون ويعلّقها أمام المقهى، حيث يقرؤها الزبائن، وقد لاقت روجاً بينهم، فكلما سمع بخبر أو قصة كتبها في الجريدة التي تشبه جريدة الحائط المدرسية. ولم تصل إلى مرحلة الطباعة، لكنها كانت اللبنة الأولى في تاريخ الصحافة الإماراتية،

لقد اجتهد، رحمه الله، في إدارة مشاريعه التجارية التي كانت أيضاً بالفطرة، وامتاز بذكاء فطري حادّ.

عاش أيامه الأخير وحيداً برعاية بعض الأقارب الذين نقلوه إلى منازلهم للعناية، حيث تدهورت صحته بسبب التقدم بالعمر، إلا أنه ظل سنوات قريبة مضت يمتلك ذاكرة جيدة وروحاً مرحة وعلاقات متعددة بين التجار وأصحاب المشاريع، ويحنّ دائماً إلى سوق العين القديم، وأيام كان المغفور له بإذن الله الشيخ زايد حاكماً لمدينة العين، ويتفقد السوق، ويشجع التجار ويقدم الرعاية لهم.