أمضى الروائي الأسترالي ريتشارد فلاناغان، اثني عشر عاماً لاستكمال روايته السادسة «الطريق الضيق إلى الشمال العميق»، التي أمنت له الفوز بجائزة «مان بوكر» الأدبية لعام 2014، وهو يقول إنه ألف 5 مسودات مختلفة منها، وعزل نفسه كلياً داخل كوخ على جزيرة خارج مسقط رأسه «تسمانيا» لمدة ستة أشهر لإنهائها.

ويعترف فلاناغان في مقابلة أجرتها معه صحيفة «إندبندنت» بمناسبة فوزه بالجائزة، بأنه لم يكن يرغب في تأليف هذه الرواية، لكنه لم يستطع الهروب من الموضوع، فالرواية شخصية جداً وأليمة، كتبها كما يقول، ليتجاوز حجر عثرة بداخله، إذ تستوحي تجربة والده في معسكر اعتقال ياباني لأسرى الحرب على طول سكة حديد تايلاند- بورما، المعروفة بـ «سكة الموت». لذا كان من البديهي أن يهدي الرواية لوالده الذي توفي، لسخرية القدر..

في اليوم الذي انتهى فلاناغان من كتابتها. ويقول عن الرواية: «لست متأكداً من ما إذا كان بإمكاني تأليف كتاب آخر لو لم أكتب هذه الرواية، كان ينبغي علي التعامل مع الأشياء التي يمكن أن تصبح حجر عثرة في داخلي، وعلى تحديدها».

«السجين 335»

إن الظروف الأليمة التي عاشها والده، السجين رقم 335، الذي نجا من قسوة الاعتقال، كانت مصدر كرب لفلاناغان نفسه، وهو يقول: «شعرت بأنني أحمل في داخلي شيئاً ما نتيجة لنشأتي كطفل تأثر بتجربة سكة حديد الموت. فالناس تفيق من الصدمة الكونية، لكن الجرح لا يندمل عندها، بل يمرر للآخرين».

وأمضى فلاناغان وقتاً طويلاً مع والده قبل وفاته، متحدثاً عن التفاصيل الأدق لتجربته في معسكر الاعتقال، وهو يقول: «كنت مهتماً بالأمور الصغيرة، رائحة الجلد المتعفن، وطعم الأرز الفاسد عند الإفطار، والإحساس بالوحل».

مسودات فخيار واحد

ربما تكون تلك الحرب نقطة البداية في روايته، إلا أن ما يدفع بها قدماً في الأساس هو كونها قصة حب مركزية، بطلها دوريغو إيفنز، الجراح في الجيش الذي تطارده علاقة حب أقامها مع زوجة عمه. العلاقة جارفة، ومحكوم عليها بالفشل، وقارنها النقاد بأعمال مثل «دكتور زيفاغو» و«مدام بوفاري»، واستوحاها فلاناغان من أحداث حصلت في الواقع، إذ يقول: «في عام 2002، كنت على جسر (سيدني هاربور)، وتذكرت قصة رجل من لاتفيا كان يعيش في بلدتنا الصغيرة، حاصرته حركات المد والجزر أثناء الحرب. فعاد إلى قريته التي كانت قد سويت بالأرض، وقيل له إن زوجته قد توفيت.

فرفض أن يصدق الخبر، وبحث عنها لمدة سنتين ثم: (تقبل وفاتها في نهاية الأمر، وهاجر إلى أستراليا وتزوج وأصبحت لديه عائلة. وفي عام 1957 ذهب إلى سيدني ورآها ضمن حشد من الناس، تحمل طفلين على يديها، وكانت لديه مجرد لحظات قصيرة ليقرر ما إذا كان سيتعرف إليها».

هذه الذكرى أوحت لفلاناغان بالذهاب إلى أقرب مقهى في المنطقة، وأن ينكب على الكتابة، وهو يقول إنها كانت الشيء الأول الذي كتبه في هذه الرواية، وبعد خمس مسودات عاد ليعتمد قصة الحب تلك.

ساحرة ومحررة

يتأمل بحياته، ويقول إن طفولته لم تكن عادية بالنسبة إلى مؤلف. فجده وجدته كانا أميين، وهو، مع أخوته الخمسة، ترعرعوا في منزل في بلدة تقوم على العمل في المناجم، مع خزانة صغيرة من الكتب. لكنه يعترف بأن الفضل يعود مجدداً إلى والده في إلهامه الكتابة.

ويقول: «كان أستاذ مدرسة ابتدائية حكومية. وترعرع في فقر لا يصدق، وكان الوحيد الذي وصل إلى المدرسة الثانوية. حصلت منه على الإحساس بأنه إذا لم تستوعب الكلمات فإنك تصبح ضحية قمعها بالكامل، لكن إذا كانت لديك القدرة على الكلمة المكتوبة، فإنها ساحرة ومحررة. وقد حفظ والده كثيراً من الأشعار عن ظهر قلب، من شيلي وبيرون وكيبلينغ، وكان يرددها عندما يشاء. وكان دوماً متقناً في كلماته. وفي النهاية، تصور العالم كقصيدة شعر».

ورواية فلاناغان أيضاً مليئة بالشعر، سواء في شكله النثري أو بأبياته التي يحفظها بطل الرواية دوريغو عن ظهر قلب. لكن فلاناغان لا يغرق في العالم الداخلي لبطل الرواية فحسب، بل يعطي صوتاً أيضا لـ «الجلادين» اليابانيين وقادة معسكر الاعتقال، في حالة من الذاتية التي تدمج الإنسانية بالحنان بدلاً من اللونين الأسود والأبيض. ويقول عن والده:

«لم يكنّ أي كراهية لليابانيين. وما خرج به والدي من المعسكرات كان هذا الإحساس الرائع بان كل شيء عبارة عن وهم، باستثناء كيف تتعامل مع الآخرين، وفي عدم التفكير أبداً في أن الآخرين هم أقل شأناً منك بأي شكل من الأشكال». وهكذا فماذا سيكون موقفه من إنجازاته، يجيب فلاناغان: «كان سيسعد لكنه سيراها في النهاية غير مهمة، وما كان يعنيني هو كيف أعيش حياتي مع عائلتي وأصدقائي».

وفلاناغان الذي فاز بجوائز عدة في أستراليا، يفاجئ القراء عندما يكشف عن أنه فكر جدياً في العمل في مناجم أستراليا الشمالية الغربية، ليدفع فواتيره إلى حين الانتهاء من روايته الأخيرة. يقول: «أنا روائي ناجح، وكنت محظوظاً بالتالي لا أرغب في أن أكون كثير التذمر بشأن المال. لكن الكتابة لم تكن سهلة إطلاقاً. انظر إلى تاريخ الأدب وستجد تاريخاً من الجمال من جهة، وتاريخاً من دفعات الديون من جهة أخرى».

حكايات سكة الموت اليابانية في حبكة تناقض روائي

 رواية «الطريق الضيق إلى الشمال العميق» هي الرواية السادسة والأخيرة للأديب الأسترالي ريتشارد فلاناغان، الذي فاز عنها بجائزة مان بوكر لعام 2014.

وعنوان الرواية مقتبس من عنوان أشهر كتب الشاعر الياباني ماتاسوا باشو من القرن السابع عشر، لكنها تروي في الصميم، حكاية واحدة من أسوأ الأحداث في التاريخ الياباني، وهي بناء سكة حديد تايلند – بورما عام 1943 المعروفة باسم «خط الموت» من قبل أسرى المعتقلات اليابانية، الذي كان والد فلاناغان أحد الناجين منها.

«حب محرم»

وعلى نقيص هذا المكان الجهنمي، فإن الرواية تتكشف عن كونها قصة حب محرم على شاطئ اديلايد. فالشخصية الأساسية فيها، جراح أسترالي يدعى دوريغو إيفنز، تطارده علاقة حب مع زوجة عمه التي تصغره في السن، كانت قد بدأت منذ سنتين، وهو يتولى أمر عدد من الرجال في معسكر الاعتقال في الأدغال الآسيوية، ويخوض صراعاً يومياً لإنقاذهم من الجوع والكوليرا والضرب المبرح.

شخصية أسطورية

في الرواية مذكرات دريغو عن المعتقل، وطفولته في تسمانيا، وحياته في ملبورن، وتمركزه في ايدلايد، حيث أقام علاقة حب محكوم عليها بالفشل مع زوجة عمه أيمي، على الرغم من خطوبته لفتاة أخرى.

وبطل القصة المغرم بالأدب، لا سيما بقصيدة «عوليس» لتنسيون، يصبح شخصية أسطورية بعد الحرب، لشجاعته في وجه المعتقلين اليابانيين. لكنه يجد نجوميته المتزايدة بعد الحرب على نقيض إحساسه بالفشل والذنب، ذلك أن سكة حديد تايلند - بورما حصدت أرواح المعتقلين الأستراليين، حتى بعد أن نجوا من المعتقل. ودريغو بعد الحرب لا يعود إلى حبيبته أيمي، بل يتزوج من خطيبته إيلا، وبعد فترة وجيزة من شهر العسل يبدأ في أولى خياناته الزوجية.

الرواية مؤثرة بشهادات مقنعة عن تجارب مروعة لمجموعة من أسرى الحرب وجلاديهم، الذين تستهلكهم ذكرى خط سكك الحديد. ويكتب فلاناغان عن دوريغو: «على مدى عقود بعد الحرب، شعر بأن روحه نائمة، وعلى الرغم من محاولاته جاهداً لإنهاضها بالصدمات والمخاطر والخيانات المتتالية وحتى المتزامنة، والثوران .. والعمليات الجراحية المتهورة، فإن ذلك لم ينفع».

القصة مليئة بفظائع الأجساد ذات الهياكل العظمية المغطاة بإفرازاتها، والتقرحات المنتفخة، وحطام العقل والروح. لكن مع كل القذارة والبؤس والصعوبات والألم، هناك رجال يحاولون دعم بعضهم بعضاً.

دربا الخلاص

ودريغو يقر بالطبيعة المتسلسلة للعنف، وكيف أعطت شكلاً لحياته ووزناً فلسفياً، عندما يقول: «العنف أبدي، إنها الحقيقة العظيمة والوحيدة التي هي أكبر من الحضارات التي أوجدها الإنسان...»، لكن فلاناغان يرى احتمال الخلاص عبر الحب والصداقة والأدب.

عبر التنقل بحذق بين المعتقل وأستراليا المعاصرة، ومن تجارب دريغو ورفاقه إلى الحراس اليابانيين، هذه القصة الجميلة القاسية تسرد قصة الحب والموت وتستكشف أشكالاً عدة من الطيبة والشر.

أما أسلوب الكتابة، فسوداوي أحياناً عن الوحل والجثث والطين، ومضيء كضوء القمر في أحيان أخرى. في الفقرة الأولى من «الطريق الضيق إلى الشمال العميق» هناك الفقرة التالية:

«لماذا يوجد في بداية الأشياء الضوء دوماً؟ وذكريات دوريغو إيفنز المبكرة كانت عن قاعة كنيسة تغمرها الشمس حيث جلس مع والدته وجدته. قاعة خشبية، وضوء يغشي النظر، وهو يتأرجح ذهاباً وإياباً بين أيدي النسوة في رحابها المتعالي. النسوة اللواتي أحببنه. مثل ولوج البحر والعودة إلى الشاطئ مرة تلو الأخرى». وأولى تجارب دريغو الجميلة في لعبة كرة قدم تقفز به إلى الشمس، وأول تجربة حب تبدو مغطسة بضوء الشمس. يتساءل بعض النقاد عما إذا كان فلاناغان يحاول كتابة نوع من رواية «الحرب والسلم» استرالية.

بطاقة

ولد الروائي الفائز بجائزة مان بوكر الأدبية لعام 2014، ريتشارد فلاناغان في تسمانيا بأستراليا، عام 1961. وهو الخامس بين ستة أطفال، وترعرع في مدينة «روزبري» على الشاطئ الغربي لتسمانيا.

ترك فلاناغان المدرسة وكان في السادسة عشرة من عمره، وعاد للدراسة بعدها في جامعة تسمانيا، حيث تخرج بشهادة بكالوريوس في الفنون على لائحة الشرف. ثم توجه إلى أكسفورد بمنحة دراسات عليا لطالب أجنبي، فحصل على شهادة ماجستير بالتاريخ. وألف أربعة كتب توثيقية قبل أن ينطلق إلى التفرغ للكتابة كروائي منذ 21 عاماً.

وصفته مجلة «إيكونوميست» بأنه يعد من أفضل أدباء أستراليا ضمن جيله. وفاز بجائزة كتاب الكومنولث. كما عمل مع مخرج الأفلام باز لهرمان، على سيناريو ملحمته «أستراليا»، وفاز بجوائز أدبية مهمة في أستراليا. كتب ست روايات حازت على إعجاب النقاد.