قضايا وإشكالات كثيرة تعانيها ثقافتنا العربية وتكابدها مجتمعاتنا في الوقت الحالي، تؤرّق الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي، وفي مقدمها شجون الحياة الأدبية وما يطال موروثنا الشعري العربي من تهميش وهجوم يرمي إلى تغييبه. كما يشدد حجازي في حواره مع (بيان الكتب)، على أن فقدان التذوق والمعرفة السطحية بقواعد لغتنا العربية، أكبر الآفات حالياً..
وهي تجعله يصب غضبه الجم على الكثير من أساتذة الجامعات والروائيين، إضافة إلى ما يفترض أنهم من الشعراء.. وكذا يدين حيثية غياب العقلانية لدى الثقافة العربية وحتميات الإيمان بموروثاتنا الثقافية. كما يرى أن الإرهاب في حقيقته هو ثقافة التخويف من الحرية والعقل والآخر.
ما تقييمك لتطورات المدارس الشعرية كنقاط ومرتكزات تجلٍ للشعر والثورة من وجهة نظرك؟
لا يُمكن تقييم شكل الشعر أو القصيدة أو قالبها أو نمطيتها عبر تطوراتها المتعددة، ومن خلال زاوية أنها تطور إيجابي أم سلبي، فكل شكل جديد طرأ على المنظومة الشعرية تبعاً أو نتيجة لمتغيرات بيئية أو سياسية أو اجتماعية، ذاك طالما أن هذا الشكل المستجد على الطبيعة الشعرية المتعارف عليها ليس من شروطه أن يخل بما سبق أو يحاول أن يلغيه؛ لأننا إذا أردنا أن ننظم شعراً على طريقة السابقين القدامى..
فلن نجد أية غضاضة في ذلك. ومن هنا منطلق أنه لا ينبغي أن نسعى أو يسعى أحد لإلغاء الموروثات الشعرية التي تعارف عليها الجميع وتعلم منها الكل في بناء القصيدة الشعرية مهما كانت تنويعاتها، فالأصول ربما تقترب من الثبات، فقد استخدموا القصيدة التي بها شعر يتكون من بحر واحد في قافية واحدة.
وكانوا إلى جانب ذلك يستخدمون شكلًا يشبه «الموشح»: عبارة عن مقاطع.. هذه المقاطع لها شكل خاص، لكنها تتكرر فمن الممكن أن يتشكل المقطع من بيتين قافيتهما واحدة، وعندما ينتقل إلى مقطع آخر تنتقل القافية. وبعد البيتين يصح أن يتبعها نصف بيت قافيته ثابتة في كل القصائد، ثم بعد ذلك قدمنا نحن الشكل الذي قدمناه هي تلك القصيدة الموزونة لكن المتحررة من وحدة البيت ووحدة القافية.
وفي العموم، لا بد للقصيدة وأن تكون مشروطة أيضاً بالبناء، فلا ينبغي أن تكون الحرية مجانية، بمعنى حينما ننتقل من بيت إلى بيت يكون كل بيت في مكانة يعبر عن قيمة داخل القصيدة فتصير متماسكة في وحداتها البنائية.
ذائقة
ما مدى توصيفك لملامح الذائقة الشعرية والأدبية لدى المتلقي وتطوراتها منذ القدم؟
للأسف الشديد. ليس لدينا آلية لاختبار وقع الشعر أو النثر على القارئ، فلا نملك جهازاً أو مكتباً أو داراً لقياس رأي القارئ في ما يقرأ..أو معرفة عدد النسخ الفعلية التي تباع من أي ديوان شعري يحظى بالانتشار ولماذا؟ وهل ينشر الشعر لأنه جيد أو لسهولته؟ أو يرجع سبب ذلك إلى ذائقة القارئ.. فهي عملية متنوعة ومتشعبة وغير محدودة المعالم..
ولا يمكن استنباطها إلا من خلال زوايا ضيقة ربما لا نستطيع التعبير عن مرادها بشكل قاطع؛ لأننا هنا نتحدث عن تنويعات ثقافية وقدراتية وموروثية لدى المتلقي حتى للثقافة ذاتها..
وبناء عليها تتشكل وحدات الذائقة الأدبية، فحين تبنى على هذا الكم من المتغيرات، فمن الصعب رصد مسارات كل هذه التوجهات للذائقة وتحديدها بشكل فاعل، لكن حينما نتحدث عن موقف القارئ والمتلقي للشعر في هذه الأيام بالذات، أتردد كثيراً في الحكم على موقف القارئ من الشعر.
وكل ما أستطيع قوله ان القارئ هو من يصنع ذائقته الأدبية عبر تطورات ونمطية حياته بشكل عام.. وهو من يصنع لنفسه العالم الخاص حتى لانتقاء من يقرأ لهم، أو من يتعرض لأعمالهم..
وتتنوع أسس بناء الذائقة وفقاً للبيئة المعاشة والمناخ الثقافي الذي نشأ عبره أو خلاله.. وعلى الشاطئ الآخر من هذا النهر فإن الأديب أو الشاعر يستطيع أن يخلق ذائقة مرادفة لتلك الذائقة الأخرى، لتتشكل منها نوعية متميزة لها تنويعاتها وحيثياتها بحيث تصبح جميع عناصر العمل الأدبي في وضع تناسقي يسمح بالتفاعل المراد من العمل الأدبي.
عشوائية التعليم
وما كبرى الآفات التي يجب تلافيها في الشأن الثقافي على الصعيدين المصري والعربي؟
كبرى آفات المناخ الثقافي في مصر، وربما في بعض البلدان العربية، تندرج في إطار فقدان التذوق للغة العربية، كنتيجة حتمية لانحدار مستوى استخدامها داخل جنبات الحياة العادية، فضلًا عن انحدار مستوى تدريسها في المدارس والجامعات.
ويؤسفني أن أعلن أن هناك الكثير من أساتذة الجامعات المصرية، خاصة في كليات الآداب والمتخصصين في اللغة العربية، لا يعرفون شيئًا عن اللغة العربية، ناهيك عن أولئك الذين يظهرون علينا في الفضائيات والمحافل الأخرى، حتى الكارثة الكبرى التي تكمن في كثير من الكتاب والروائيين، فأكثرهم ومعظمهم يستعينون بالمصححين للانتهاء من أعمالهم الأدبية..
ولو أنهم نشروا أعمالهم على الحالة الكتابية التي كتبت عليها نفسها، ستكون فضيحة بكل المقاييس، وكل هذه العوامل بكل تأكيد تسهم في خلق جيل من الشعراء ليس لديه أدنى قدرات شعرية تضاهي أو حتى تتوافق مع السلف من الشعراء.
محاذير
كيف ترى أسباب تردي اللغة العربية وتراجعها في مجتمعاتنا؟
لعلَّ من بين أهم الأسباب التي أودت بنا إلى تقهقر اللغة العربية في بلادنا، يرجع إلى العشوائية في التعليم..
فلا بد أن تكون هناك دراسة مستفيضة تتعلق ببحث هذا الشأن ووضع تصورات بديلة لرفع كفاءتهم بصورة أفضل، تطلعاً للثقافة بمفهومها الواسع ووضع ميزانيات خاصة بالتعلم فقط، دونما استغلالها فقط في التوسع في بناء المدارس على حساب العملية التعليمية وما تحتاجه من نفقات باهظة حتى نصل إلى المراد والمطلوب والمستهدف.
مشتركات وأفق
هل تعتقد ان صنوف الإبداع الأدبي والثقافة بالمجمل، أدوات قادرة على صنع وحدة عربية مشتركة؟
بالطبع، كلها أدوات لا بديل عنها لصنع تلك الوحدة المنشودة منذ زمن بعيد، وقادرة على أن تكون نواة أساسية لتوحيد العالم العربي، لكن كيف؟
وهو السؤال الجوهري الذي لا يحتاج إلى إجابة بقدر ما يحتاج إلى أفعال تترجم الحلول بشكل أفضل، فما هي الوحدة التي نطلبها؟ هل نطلب وحدة ثقافية سياسية بطريقة تحفظ لكل بلد شخصيته لكن تعقد بينه وبين بقية البلاد صلات وثيقة تتعاون فيها البلاد العربية، على أن تواجه مشكلاتها المشتركة لتتكامل الطاقات فيها، وتستطيع الشعوب العربية، حينها، أن تتقدم كما تقدمت شعوب جنوب أسيا فضلاً عن أوروبا.
ما تقييمك لدور مؤسسات الدولة في مناهضة التطرف بالتعاون مع المثقف الحقيقي؟
إن الدولة، قبل أي شيء، ملزمة أن تعترف بقيمة هذه المؤسسات التي لديها، وبدورها المؤثر في المجتمع وفي إدارة شؤون العمل الثقافي وفق شكل يسمح بارتقاء بالمزاج المجتمعي.. وكذا تهيئة هذه المؤسسات لأداء دورها الحيوي في حياتنا الوطنية، خاصة في هذه المرحلة التي نستطيع فيها أن نقول دون أدنى مبالغة إن حاجتنا للأمن الثقافي لا تقل عن حاجتنا للأمن الغذائي.
ونحن من دون أن نأمن على أنفسنا ثقافياً معرضون لأن نصبح أعداء أنفسنا وأن نتحول جميعاً إلى إرهابيين، فليس الإرهاب إلا ثقافة موروثة من عصور الطغيان تخيف أصحابها من الحرية ومن العقل ومن الغير، وتحولهم إلى كائنات هائجة متوحشة تقدس جنونها وتعتقد أن كل ما تقوله وما تفعله هو الحق وألا حياة لها إلا بموت الآخرين.
«مدينة بلا قلب» تؤسس لتضاد فكري محفور في الوجدان
إسقاطات وحالات توصيف ومحاكاة ذكية، يعقدها أحمد عبدالمعطي حجازي في (مدينة بلا قلب)، ليسرد ما ينتابنا أو يتبادر إلى ذهننا حين تقع أعيننا أو يتبادر إلى مسامعنا كلمة «مدينة». إذ إن الصورة الذهنية التي ترتسم لحظتها، وكما يصورها العمل، ربما لا تخرج بعيداً عن سياقات الرفاهية والرقي ومظاهر الترف وبدايات الإحساس بالتحضر..
لكن هل يمكننا أن تتخيل ما سبق من القول دونما أن يخطر ببالنا أو هواجسنا الجانب الآخر الذي يقترب من التضاد الذهني والنمطي لكلمة المدينة، وهي كما تحيلنا اليه وتشكله لنا حيثيات ( مدينة بلا قلب) كلمة «القرية» بما تمثله من بدايات ونشأة وارتباط وكيان عبر عنها العديد والعديد من السياقات الفلكلورية، في الأدب والغناء والفن ودوافع الإبداع على كونها «الأصل»، والأصل دائماً ما يبقى محفوراً في الوجدان مهما كانت مراحل التنقل والسفر والترحال.
بين السلبي والإيجابي
جمع حجازي في الكتاب، وبين قصائده المتعددة، أسمى تفصيلات الحركة البنائية لشخصيته التي تمثلت في انتقاله من الريف إلى المدينة، وإسهابه في توصيف مدلولات الجدران.. توصيف عوائق ومغبات الانتقال ما بين زمن بكل ملامحه وبين آخر بكل تحدياته وفى محاول لسرد منطقي هائم، بين ما هو سلبي حتمي ربما يوصل للمنشود والمبتغى.. وبين ما هو إيجابي مضى نحاول دوماً التشبث به وعدم الانسلاخ من ضروريته، مهما تجلت أمام عيوننا أي تفنيدات سلبية تحيدنا عن مبادئنا التي ترسخت بدواخلنا عبر القدم.
وكأنما أراد حجازي أن يظهر لنفسه وللمتلقي في هذا العمل، قيمة الصفات وعلاقتها بالأشياء والمدركات في كونه انتهج آفاق الجمل البلاغية والتراكيب الإنشائية والمجازية، في توصيف أروع الصفات والمعاني الإنسانية التي مر بها، كأن يتحدث عن «الأنوار» وما أراد أن يؤسس من خلالها دوافع الحزن والأسى والانبهار وارتباكية المشاعر والضوضاء والضجيج. وما يصاحبها من تأملات متناثرة الأشلاء، وكأنما أراد بهذا العمل أن يظهر الفوارق بين المتضادات ليبرز المعنى تلو المعنى ويؤصل عمق الإحساس وتأثيرات كل من المكان والزمان عليها وتوصيفات طبيعة العلاقات ما بين البشر .