بعد رحيل جيل العمالقة الفرنسيين الكبار في شتى مجالات الفكر والأدب والفلسفة والفن، الذين كانوا قد برزوا في المشهد الثقافي العالمي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية من أمثال ريمون آرون، منظر الفكر الليبرالي الشهير وجان بول سارتر، الفيلسوف الوجودي المعروف..
والبير كامو صاحب رواية «الغريب» التي طُبع منها ملايين النسخ وكانت العمل الأكثر قراءة في فرنسا في عقود الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وميشيل فوكو، الفيلسوف الذي بلغت شهرته آفاق العالم كلّه، وكلود ليفي ستروس، مؤسس البنيوية الذي غادر عالمنا قبل سنوات قليلة وهو على مشارف المائة عام، وكُثر غيرهم.. بعد رحيل هؤلاء لم يبق سوى حفنة قليلة من «الكبار» في عالم الفكر والمعرفة في فرنسا. ومن بينهم المؤرّخ بول فاين، الأخصائي المعترف به عالمياً كمرجعية في مجال تاريخ روما القديمة، والأستاذ السابق للتاريخ القديم في «الكوليج دو فرانس».
بول فاين من مواليد عام 1930 في قرية صغيرة بجنوب فرنسا في كنف أسرة «متواضعة». جدّه كان مزارعاً يعمل في الأرض، ووالده كان موظفاً «صغيراً» في أحد البنوك. ومن الأشياء التي يرددها «بول فاين» بكثير من الاعتزاز، أنه كان الفرد الأول من عائلته كلّها الذي حصل على شهادة الدراسة الثانوية.
أظهر خلال مسيرته الدراسية تفوّقاً ملحوظاً دفع به إلى كبريات المدارس الثانوية الفرنسية، قبل أن يصبح عام 1951 أحد طلبة مدرسة المعلّمين العليا ذات المكانة العلمية الرفيعة في التاريخ الفرنسي الثقافي، والتي تخرج فيها كبار مفكري وفلاسفة وأدباء فرنسا.
حصل بول فاين على شهادة التأهيل العليا ــ أغريغاسيون ــ بقواعد اللغة الفرنسية. لكن اهتمامه الحقيقي كان منذ البداية بتاريخ روما القديمة. وبعد أن عمل لسنوات عديدة أستاذاً لهذا التاريخ في جامعات فرنسية، من بينها جامعة السوربون بباريس، أصبح في عام 1975 أستاذ التاريخ الروماني في «الكوليج دو فرانس» بدعم من «ريمون آرون» منظّر الفكر اللبرالي الكبير. وشغل ذلك المنصب حتى عام 1998.
«فاين» الروماني
تردد باستمرار على لسان فاين ومن خلال ما كتبه «قلمه»، أنه كان مولعاً باستمرار منذ سنوات طفولته، بالكتابات اللاتينية التي كان يحاول فك ّرموزها في متحف مدينة «نيم» غير البعيدة عن مرتع طفولته. وبالتوازي، كان مولعاً أيضاً بجمع كل ما له علاقة بالحضارة الرومانية القديمة وبالعالم الروماني، وعلى رأسها «العملات».
ثم شمل فضوله العالم اليوناني القديم، على اعتبار أن «الثقافة الرومانية غدت فرعاً من الثقافة اليونانية القديمة ذات البعد الكوني ـ يونيفرسال ــ في عصرها »، كما شرح لاحقاً.
كيف نكتب التاريخ؟
إن مسألة كيفية كتابة التاريخ تأخذ حيّزاً كبيراً من اهتمام بول فاين. وهذا ما يشرحه بإسهاب في كتاب صدر له عام 1971 تحت عنوان «كيف تجري كتابة التاريخ». ومن التعريفات التي يقدّمها فيه لدور المؤرخين، ذلك التعريف الذي تختزله الجملة التالية: «إن المؤرّخين يروون أحداث حقيقية من فعل البشر، وبالتالي التاريخ هو رواية حقيقية».
ويؤكّد فاين في مجال العمل التاريخي على أهمية ما يسمّى «المدرسة الفرنسية الجديدة لكتابة التاريخ»، والمعروفة بـ «مدرسة الحوليات» التي تأسست في ثلاثينات القرن الماضي، من قبل مؤرخين شباب آنذاك على رأسهم مارك بلوك وار نست فيفر وفرنان بروديل.
أصول الحضارة الغربية
من المسائل الأساسيّة التي تعرّض لها بول فاين في عمله التاريخي عن روما القديمة، مناقشته لمقولة شائعة عن القول بوجود أصل مسيحي للحضارة الغربية بنسختها الأوروبية خاصّة. وهذا ما يشرحه بالتفصيل في عمله الشهير: «عندما أصبح عالمنا ــ الغرب ــ مسيحياً» الصادر في عام 2007 . فهذا العمل مكرّس في الواقع لمحاولة شرح الأسباب التي أدّت إلى انتصار المسيحية في الإمبراطورية الرومانية.
وهو يناقش فيه الفكرة القائلة بمساهمة المسيحية في صياغة حضارة جديدة «أكثر إنسانية» في الغرب، بعد أن غدت روما مركزها الأساسي الذي انتشرت منه في العالم الغربي عموماً انطلاقاً من أوروبا.
العقل الحر ّ «أوّلاً»
من السمات الأساسية التي طبعت بطابعها عمل بول فاين التاريخي، كما طبعت سلوكياته في الحياة العامّة والخاصّة، إصراره على أن يبقى ذا «عقل حرّ» و«متحرراً». هكذا مال في سنوات شبابه الأولى إلى أفكار معسكر اليسار الفرنسي، ويشير إلى أن نقطة الانطلاق «المباشرة» في ذلك كانت مشاهدته لفيلم «عناقيد الغضب» لجون فورد.
وحريّة العقل هي أيضاً العنوان الذي حدد فيه بول فاين مواقفه من البشر الذين تعامل معهم، بما في ذلك زملاء العمل الفكري.
وكان من بين أصدقاء بول فاين المقرّبين الفيلسوف ميشيل فوكو الذي كرّس له أحد كتبه تحت عنوان «فوكو جعل التاريخ ثورياً»، وكتاب آخر عنوانه «ميشيل فوكو. فكره وشخصه». ويصف فوكو بـ «الصديق الكبير في حياته». كما كان من أصدقائه الذين وجدوا مكانة خاصّة لديه الشاعر رونيه شار وجاك لو غوف.
وما يؤكّد عليه بول فاين أنه حرص في كل ما كتبه عن التاريخ الروماني القديم وسواه على أن لا يكتب ما يرى فيه «الحقيقة». ذلك على غرار تأكيده في كتابه الأخير عن سيرة حياته على وقائع ثابتة مثل :زواجه ثلاث مرّات كما فعل شيشرون وأوفيد وقيصر، يتقاضى اليوم مرتباً تقاعدياً مقداره 4500 يورو شهرياً ويمتلك سيارة صغيرة ..والكتب تغطي جدران منزله الذي يعيش فيه منذ سنوات في قرية عند سفح جبل فانتو بجنوب فرنسا.
مؤلفات
من أهم مؤلفات بول فاين:
■ كيف نكتب التاريخ؟
■ فوكو جعل التاريخ ثورياً
■ الخبز والسيرك، سوسيولوجية لتعددية سياسية
■ هل آمن اليونانيون بأساطيرهم؟
■ رونيه شار وأشعاره
■ المجتمع الروماني
«لن أشعر بالضجر».. الحياة أكثر من سلطة ومال
لا شكّ أن بول فاين هو أحد أكبر المؤرّخين الفرنسيين، هذا إذا لم يكن المؤرّخ الفرنسي الأكبر، من الباقين على قيد الحياة. وكان قد نال جائزة «فيمينا» الفرنسية الشهيرة للدراسات في عام 1914 عن كتابه الذي يحمل عنوان «وفي الأبدية لن أشعر بالضجر». إذ يؤكد فيه أن لذة وجوهر الحياة الحق، يتجاوزان المكاسب وحب السلطة والمال.
هذا الكتاب هو نوع من السيرة الذاتية لمؤلفه المؤرّخ الشهير المختص بالتاريخ الروماني القديم والأستاذ في «الكوليج دو فرانس»، أرفع مؤسسة علمية في فرنسا، حيث عرفت قاعاتها أهم المفكرين الفرنسين في جميع الاختصاصات. لكن العمل هو قبل كل شيء نوع من الشهادة على العصر الذي «اجتازه» المؤلف ــ المؤرّخ البالغ من العمر اليوم 85 عاماً.
طفولة
يعود المؤلف في البداية إلى الحديث عن طفولته التي أمضى القسم الأكبر منها في مناطق ريفية في إيطاليا مع أسرته «المتواضعة». ويكرّس العديد من الصفحات للحديث عن مساره كـ «تلميذ لامع»، استطاع بالاعتماد على تفوّقه العلمي بعيداً عن منبته الاجتماعي المتواضع أن يصل إلى قبوله في مدرسة المعلمين العليا التي تخرّج منها كبار مفكري فرنسا.
كما يشير «فاين» مرّات عدة في هذه السيرة ــ الذكريات.. إلى السنوات التي أمضاها في مدرسة المعلّمين العليا إلى جانب طلبة آخرين غدوا فيما بعد من مشاهير عصرهم مثل ميشيل فوكو وريمون آرون.
وعن علاقته بريمون آرون لا يتردد صاحب هذه السيرة بالاعتراف أنه «كان جاحداً» حيال المفكر الراحل. ثم يضيف أن ذلك لم يكن على خلفية الخسّة أو بدافع نزعة شريرة، لكن بالأحرى بسبب «سوء التصرّف». ويتوقف «بول فاين» طويلاً عند الحديث عن آلامه الكثيرة التي عاشها.
ذلك ابتداء من «شكله» أو ما عبّر هو نفسه عنه بـ «وجهه القبيح» الذي كان بالنسبة إليه بمثابة مصدر عذاب مستمر. ويروي على مدى العديد من الصفحات، كيف أن الأشياء الصغيرة، والتي يتم توصيفها بـ «الصغيرة»، يمكن أن تكون في الكثير من الحالات مصدر «قلق كبير» لمن يعانون منها هذا في الوقت الذي لا يمكن للآخرين أن يفهموا سبب ذلك.
ومصدر آخر للألم يحدده بحياته العائلية، وهو الذي تزوّج ثلاث مرّات «على شاكلة شيشرون وقيصر وأوفيد»، تلك الشخصيات الرومانية القديمة التي طالما كتب الكثير عنها في أعماله وهو الأخصائي الكبير بالحقبة الرومانية.
وهناك حدث خاص يحدده المؤلف كمصدر ألم أبدي بالنسبة إليه وهو فقدانه لابنه في سنّ مبكّرة. وما يؤكّده المؤلف هو أنه عاش حتى وفاة زوجته «ايستيل» باعتبارها «مأساة كبيرة» ضمن العديد من المآسي الحقيقية «التي تكاد لا تصدّق».
خانة وتصنيفات
ومن المسائل التي تتكرر العودة إليها بأشكال مختلفة على مدى صفحات هذا الكتاب تلك التي تتعلّق بمجموعة من المكاسب التي تشغل عقول البشر اليوم، بما في ذلك أولئك الذين يتم تصنيفهم في خانة «المثقفين»..
ويصفهم «فاين» بـ «أصحاب العقول المحدودة المنتصرين اليوم». المكاسب التي يقصدها يحددها بـ «المال» و «السلطة» بشكل خاص. ذلك على أساس أنهما هما اللذان يشكلان الدوافع الأساسية لسلوك البشر في الحضارة الماديّة السائدة.
بالمقابل يذكر بول فاين، ويذكّر، بفئة أخرى لا تشكل سوى أقليّة ضئيلة من «أصحاب العقول» الذين يصفهم بأنهم «إذا لم يكونوا من فئة أعلى» فهم على الأقل من «فئة مختلفة» عن الآخرين. مصدر الاختلاف يجده في المرجعيات التي يقولون بها والأهداف التي يسعون إليها ويلخّصها بجملة واحدة مفادها أنهم «يسعون إلى تحقيق هدف واحد هو عيش ما يثير اهتمامهم».
وفي المحصّلة يمكن توصيف كتاب «وفي الأبدية لن أشعر بالضجر» أنه نوع من الشهادة على تطوّر العادات في مجتمع مثل المجتمع الفرنسي، خلال نصف القرن الماضي. ويذكر أن عشرات المظاهر وأشكال السلوك التي ما كان لها أن تظهر إلى العلن غدت اليوم من المسائل التي يتباهى بها أصحابها. وقبل كل شيء، هذا الكتاب هو درس في «الحكمة القديمة» يطرحه المؤلف دون مواربة أو «حياء كاذب».