تتفاءل الروائية الأميركية من أصل تشيلي، إيزابيل الليندي بتاريخ الثامن من يناير من كل عام، كموعد محدد للانطلاق بأية رواية جديدة تقرر كتابتها، إلا أنها لا تعتبر الكتابة مصدر كسب للعيش ولا وسيلة لحصد الشهرة، بل هي تحب رواية القصص وتعتبرها رحلة رائعة في المجهول. أما الكتابة بحد ذاتها، فوسيلة مذهلة للتجاوز والتعلم برأي الليندي، التي تجزم بأن الحزن هو تربة القلب الخصبة ..
حيث تنمو أفضل الأشياء. وهي تتساءل لو كانت حياتها هادئة وخالية من أحداث تستحق الذكر، فما الذي عساها تكتب عنه؟ ومع ذلك فهي لا تحاول إيصال رسائل، بل تكتب انطلاقاً من تجربتها الخاصة ومعاينة ما تراه حولها. وتؤمن، متأثرةً بمقولة ناشرة كتابها الأول، بأن العمل الثاني يثبت الكاتب..
حيث إن أياً كان يمكن أن يضع كتاباً أول جيدا يثقله بتجارب الحياة التي عاشها والعائلة والذكريات وكل شيء، لكن العمل الثاني يرسخه ككاتب حقيقي، على نسق الجيل الأول من أدباء أميركا اللاتينية الذين ترعرعت على قراءة أعمالهم وتركوا أعمق الأثر في كتاباتها لما خلقوه في داخلها من ترنيمة متنوعة الأصوات المتناغمة التي تعكس الواقع، ليس للعالم بقدر ما هو لسكان أميركا اللاتينية.
عام التغيير
بشفافية وصراحةٍ معهودتين، تحدثت إيزابيل الليندي لموقع «غودريدس» بمناسبة إطلاق روايتها الأخيرة بعنوان «العاشق الياباني» عن التعصب المجتمعي ضد كبار السن، وأهمية العلاقات الغرامية بعمر متقدم، وكيف يغذي الأسى والخسارة الإبداع.
وقالت حول الرواية: «مصدر إلهامي جاء من جملة قالتها صديقة لي، لكني أعتقد أن موضوعات الكتاب كانت ترافقني منذ مدة طويلة». وتدور الرواية حول الحب والعشق والخسارة والتقدم في العمر والموت والذكريات. وقد راودت الفكرة إيزابيل حين كانت تتمشى في شوارع نيويورك مع صديقة أخبرتها بأن أمها الثمانينية التي تعيش في مسكن للعجزة تصادق جنائني ياباني منذ 40 عاماً، وأجابتها: «ربما يكونان حبيبين».. وهو ما رفضته الصديقة تماماً، لأنه لا يمكن إطلاقاً للمرء أن يفكر بارتباط والديه بعاشق ما.
ومنذ ذلك الحين وهي تفكر في امرأة ثمانينية متقاعدة وتتساءل ما إذا كان يمكن أن لا تزال مرتبطة بعلاقة عاطفية، وشكلت تلك الفكرة البذرة الأولى للرواية، التي أكملتها أحداث حياة إيزابيل الحالية..
حيث قالت: «أنا في السبعينيات من عمري، واتسمت هذه السنة بأنها كانت سنة التغيير والخسائر، فوالدي هرمان، وأراهما يكبران وتتدهور صحتهما، وأتساءل ما إذا كانت الحياة تستحق أن نعيشها حتى هذه السن المتقدمة.
ثم اني كنت متزوجة لسبعة وعشرين عاماً ومغرمةً جداً بزوجي، إلى أن بدأت الأمور تسوء قبل ثلاثة أعوام، فأدت إلى انفصالنا، وهي خسارةٌ كبرى لي، فعلى الرغم من أن زواجنا لم يكن ناجحاً، أنا إنسانة رومانسية جداً.. ولطالما فكرت أنه كان يمكن إنقاذ الزواج وتمضية حياتنا معاً، بدلاً من العيش وحيدة».
(لا أعترف)
وفي ردّ على استفسار حول محاولتها عكس نظرةٍ مريحة وتقدمية حول الهرم، مقارنةً بالخوف المرتبط بالموت في ثقافتنا، تعتبر إيزابيل أنها لا تحاول من خلال ما تكتب إيصال رسالةٍ ما، بل التحدث عن تجربتها وما تراه من حولها. وتشير إلى أننا نعيش في ثقافة موجهةٍ حول الشباب والنجاح، حيث ينبذ كل من ليس شابا أو ناجحا
. فإن كنت تعاني من: إعاقة، سمنة، فقر أو تقدم في السن، فأنت دخيل، ولا تشكل جزءاً من الثقافة. وهذا أمر صعب لأنه لا يمكن تفاديه، وتجاهله تافه.
وتقول: بلغت السبعينيات وأعلم أني لا أزال من الداخل، الشخص الذي كنت عليه، أتحلى بالطاقة وعقلي يعمل جيداً ولم يصبني أي ترهل بعد، أشعر بأني مليئة بالحياة والفضول والحماسة. لا أشعر بأني أنتمي إلى حيث تصنفني الثقافة كامرأة مسنة وحيدة، على غرار كثر.
وتعترف إيزابيل بأنها من هذا المنطلق تتماهى مع ملاحظات إحدى بطلات روايتها الأخيرة ألما، التي تقول: الحقيقة هي أني كلما تقدمت في السن، أحببت عيوبي أكثر.
خريطة الكتابةوتؤكد بالعودة إلى طلاقها من زوجها وتأثير التجربة المحزنة على مستوى إبداعها الكتابي، أنه لا بدّ من المرور بأوقات عصيبة قبل الخروج إلى النور، ومهما بلغ مستوى الحزن أو الخسارة، فسأتخطاه. لن أنساه بل سأتجاوزه، لا هذا أيضاً ليس بالتعبير الصحيح، سأستوعبه، بمعنى أنه سيصبح جزءاً من الأرض الخصبة..
حيث أقف وحيث ينبع الإبداع. ورداً على سؤال حول ما إذا كانت الكتابة تساعدها على الشفاء أو مداواة الإحساس بالخسارة أو التحسر، تشدد إيزابيل على روعة الكتابة بوصفها عملية بطيئة تلجأ فيها إلى التفكر بكيفية وصف الأشياء، والإضاءة على بعضها من دون سواها، وتحديد المساحات الباهتة التي لا يكترث أحد لها.
وتؤمن بأن اختيار النبرة والكلمات يغير منظور وطريقة قصّ الحياة، فإما تجعلها الأوصاف القاتمة والسلبية مريعة أو تملؤها النعوت المشرقة بالبهجة. وتتابع: حين أكتب أحاول أن أنظم الارتباك الذي أعايش وأوضحه. كل كتاب أشبه بالخارطة؛ خارطة تخط معالم جزء من الرحلة.
العاشق الياباني.. رواية الحب بمختلف أشكاله
تعد (العاشق الياباني) رواية عن الحب بمختلف أشكاله، وفق إيزابيل الليندي، والتي تتابع، في ملحمة متعددة الأجيال، مراحل حياة ألما بيلاسكو، الفتاة اليهودية المرسلة من ألمانيا للعيش في كنف العائلة الكبرى في سان فرانسيسكو، عقب اجتياح النازية لبولنده. وهناك تبدأ أحداث الرواية بلقاء ألما مع إيكيمي فوكودا، ابن بستاني العائلة الياباني، ومن ثم وقوعها في حبه.
وتنساب قصة حب ألما وإيكيمي بتعقيداتها المتأزمة، التي رافقت أحداث الحرب العالمية الثانية وحادثة الاعتداء على بيرل هاربور التي أرغمت الحبيبين على الافتراق بعد إرسال إيكيمي وعائلته إلى المعتقل، لتستمر حياة العاشقين على امتداد سنوات حياتيهما، تتأرجح بين الوصال والانفصال في قصة حب أجبرا على إخفائها عن بقية العالم.
استقاء
يتضمن عمل الليندي الاخير، الذي ينطوي على بعض مظاهر الواقعية السحرية، شخصيات نسائية قوية، ويستقي بغزارة من حياة الكاتبة وتجاربها الشخصية، وهي القائلة: والدي في التسعينيات من العمر، وموضوعا الخسارة والتقدم بالسن يطوفان من حولي. الرفقة والحميمية ولمسة من محب لا يضع يده عليك بغرض التنظيف فقط، أمور في غاية الأهمية.
وتعالج الليندي من خلال العاشق الياباني الطريقة التي يجعل الهرم النساء خفيات، بمعنى أن يكف الجميع عن ملاحظة وجودهن، وتقول: ربما تهب إلى مطعم وتكون آخر من يطلب لأن النادل لا يراك، لكن هناك أمورا أخرى رائعة حول التقدم في السن، كالحب والتقدير والمغازلة..
والشعور بالرضا الذاتي الذي يدوم طويلاً. وتتمثل إحدى أعظم فوائد الشيخوخة لدى الليندي بعدم الاضطرار لقبول شيء على مضض: أرى الأشخاص الذين أحبهم ويعجبونني فقط، لا أرتاد أماكن لا أحبها، أدخر الطاقة والوقت والاهتمام والإبداع لأمور تهمني فعلاً.
رسائل غامضة
مرتحلةً عبر الزمن، وممتدة عبر أجيال وقارات، تطرح رواية العاشق الياباني أسئلة حول الهوية والهجران والتضحية والتأثير المجهول للقدر على مسار حياتنا، وتتمخض عن تكريم مؤثر لوفاء قلب الإنسان ورسوخه في عالم من المتغيرات اللامتناهية. فبعد عقود طويلة..
واقتراب ألما من نهاية حياة طويلة حافلة بالأحداث، تندهش مساعدتها إيرينا بازيلي في مركز الرعاية بالمسنين بسيل من الهدايا والرسائل الغامضة التي تصل لألما لتكتشف فيما بعد قصة إيكيمي وحبه السري الجارف الذي دام لقرابة سبعين عاماً.
كقصة تتنقل أحداثها بين الماضي والحاضر، بين العهد الحديث والحرب العالمية الثانية، تنجح الليندي في العاشق الياباني بضخ ما يكفي من الألوان والعواطف في السرد المعاصر كما في الحقبة التاريخية، بما يستهوي القارئ.
وتواصل إيزابيل من فصل لآخر كشف الأحجيات التي تعرفنا إلى سبب زواج ألما بناثانييل بدلاً من حبيبها إيكيمي، والجانب العنصري الذي لعب دوراً في قرارها. ويكتشف القارئ أيضاً السبب الذي جعل إيرينا عاجزة عن الثقة بأي رجل رغم ملاحقة سيث لها. تتسم بعض الاكتشافات بالمزعجة إلا أن الحب يحضر في النهاية وينقذ كل امرأة.
وكعادتها كروائية لا تضاهى لا تحرر إيزابيل القارئ من سحر القصة حتى الصفحات الأخيرة، مضفيةً القليل من واقعيتها السحرية الحلوة المريرة.
تفاصيل تاريخية
حظيت الرواية بالاهتمام عينه للتفاصيل التاريخية والفهم العميق للشخصيات وهي ميزة طبعت كافة أعمال الليندي، فإيكيمي مثلاً رجل رائع حكيم قديس صاحب روح طاهرة، وعاشق حساس ومتفهم، وألما معجبة بقوته الداخلية غير المتزعزعة، وابتعاده عن الغرور، ورقته ولطفه، وتعابيره المسالمة.
لطالما كانت الليندي رومانسية عنيدة، إلا أن روايتها الحافلة إلى حدّ الاختناق بالعلاقات المتأججة، تنحدر، حسب البعض، إلى مستوى الكتب المبهرجة الرخيصة، حيث الأشخاص يهيمون فوراً بلا مقدمات، وينجرفون مع تيار العشق والرغبات الملتهبة، التي تستمر في الاشتعال إلى أن يأتي القدر ويطفئها بضربة من يده.
وتتدفق الفقرات التي تندرج في رأي البعض في فئة الجدية والخيبة التامة، ويعتبرون الليندي مع ذلك نجمةً خلت روايتها من اللمعان.
شذرات
إيزابيل الليندي. كاتبة تشيلية تغلب على أعمالها تقنية «الواقعية السحرية» التي طبعت رواياتها، لا سيما «بيت الأرواح» و«مدينة الوحوش». وصفت الليندي بأنها «الكاتبة باللغة الإسبانية الأكثر قراءة حول العالم»، ومنحت عام 2004 عضوية الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب، وحصلت في 2010 على الجائزة الوطنية للآداب.
ومنحها الرئيس الأميركي باراك أوباما العام الماضي وسام الحرية الرئاسي. وولدت الليندي في البيرو عام 1942، ثم انتقلت عقب طلاق والديها للعيش في تشيلي مع والدتها، ذاك قبل أن تنتقل إلى بيروت عام 1953، وهي مقيمة اليوم في كاليفورنيا. وتشكل رواية «العاشق الياباني» أحدث أعمالها، التي ترجمت إلى أكثر من 35 لغة، وباعت ما يزيد على 65 مليون نسخة في كافة أنحاء العالم.