عرفت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي حالة من التشوش في السنوات التي تلت وصول بوريس يلتسين إلى السلطة كأوّل رئيس لروسيا في فترة ما بعد النظام الشيوعي الذي استمرّ فترة تزيد على سبعة عقود من الزمن. وبدا خلال عقد التسعينيات من القرن الـ20، أن موقع روسيا على المسرح الدولي قد تقهقر وانحسر بينما تعاظم دور الولايات المتحدّة الأميركية باعتبارها القوّة العظمى الوحيدة، و«القطب» الذي يتأسس حوله نظام دولي جديد.
لكن روسيا بدأت تستعيد دورها الدولي مع وصول فلاديمير بوتين إلى قمّة السلطة في مطلع عام 2000. بالتزامن مع السعي إلى أن تغدو من جديد قوّة حديثة لها وزنها الحاسم في العديد من ميادين السياسة الدولية. هذا في ظل بروز ملامح «نظام دولي متعدد الأقطاب» بعيداً عن «أحادية القطب» التي تمثّلها السيطرة الأميركية.
لكن ما برز بعد سقوط جدار برلين لم يكن برأي العديد من المحللين والاستراتيجيين، بمثابة «نظام دولي»، بل بالأحرى «فوضى دولية». ومن بين هؤلاء بوبو لوو، الباحث في الشؤون الروسية في مركز «شاتام هاوس» للدراسات الاستراتيجية في بريطانيا، والمدير السابق للبرامج المختصّة بالصين وروسيا في مركز الإصلاح الأوروبي بلندن، والذي صدر له أخيراً، كتاب تحت عنوان «روسيا والفوضى العالمية الجديدة».
تتوزّع مواد هذا الكتاب بين ثلاثة أقسام رئيسية، يدرس المؤلف في الأوّل منها ما يسميه «السياق». وهو يناقش «السياق الداخلي ــ الوطني ــ للسياسة الخارجية الروسية» في أحد الفصول، ويقوم بدراسة العلاقات بين روسيا وبقيّة العالم في الفصل الثاني الذي يحمل عنوان «عالَمان».
هذان الفصلان يشكّلان نوعاً من رسم الواقع الروسي الداخلي بمختلف معطياته، ما يمثّل نوعاً من «الخلفية» التي ترتسم على أساسها السياسات الروسية، باعتبار العلاقات الدولية لأي بلد من البلدان، بمثابة انعكاس لمعطيات الأوضاع الداخلية التي يعيشها. تتم الإشارة في هذا السياق إلى المقولة الشهيرة التي رددها المنظّر الاستراتيجي الشهير فون كلاوزفيتش، ومفادها أن «الدبلوماسية هي استمرار للسياسة الداخلية»، وأن «الحرب هي استمرار للسياسة».
ومن المعطيات التي يؤكّدها المؤلف، أن روسيا تعيش في محيط جغرافي متعدد الأصوات والاتجاهات والمنافسات الصريحة أو الضمنية، ومن بين الدول المجاورة القوّة الآسيوية الكبرى المتمثّلة في الصين. وتبقى البلدان الأوروبية من بين أكثر البلدان «حاجة لمواد الطاقة» التي مصدرها روسيا، والتي تمثّل أحد كبار مصدّري الطاقة في العالم اليوم.
والقسم الثاني من الكتاب يخص «الأداء الروسي»، وذلك من خلال دراسة «روسيا والحكومة العالمية»، و«الإمبراطورية ما بعد الحداثية» و«منعطف نحو الشرق» و«العلاقة مع الغرب»، كما تشير عناوين الفصول الأربعة بالتتالي. وهذا القسم مكرّس خاصّة للبحث في «خصوصيات» السياسة الخارجية الروسية. وفي مقدّمة هذه الخصوصيات أن روسيا «تبدو» من أكثر بلدان العالم تمسّكا بـ«الشرعيّة الدولية»، وتطالب بإعطاء الأولوية للقانون الدولي. هذا في منظور استخدام ذلك في منظور عودتها إلى الفعل على المسرح الدولي.
ومما يؤكّده المؤلف بهذا الصدد حول «خصوصيات السياسة الخارجية الروسية»، هو أنه «بالنسبة لبوتين وشركائه في السلطة، كما بالنسبة للكثير من الروس العاديين، تكمن الكارثة الحقيقية في أن تتحوّل القوة العظمى الثانية في العالم ــ أي روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي ــ إلى قوّة مهمّشة»، كما نقرأ.
مثل هذا التفكير بخسارة روسيا لموقعها على المسرح الدولي «يؤرّق»، كما يكرر المؤلف، بوتين والكرملين وروسيا. وما يجد صداه في تصريح الرئيس الروسي عام 2005 بأن «انهيار الاتحاد السوفييتي كان الكارثة الجيوسياسية ــ الجيوبوليتيكية ــ الأكبر في القرن العشرين».
أمّا القسم الثالث والأخير فموضوعه «الإمكانيات والاحتمالات». ويحمل فصلاه العنوانين التاليين «سياسة خارجية جديدة من أجل روسيا جديدة»، ثمّ «روسيا والعالم في أفق عام 2030». وهنا يحاول المؤلف بوضوح تقديم نوع من الرؤية المستقبلية لما يمكن أن تكون عليه توجهات روسيا وموقعها في عالم الغد غير البعيد.
ويرى المؤلف أنه ينبغي قبول فكرة أن تصوغ روسيا سياسة خارجية جديدة، بل يقول إن هذا الأمر ضروري، و«ممكن». شريطة قبول روسيا «كما هي» وأنها محكومة بآلية سياق تطورها. مع التأكيد أيضاً أن السياسة الخارجية الروسية قد عرفت «تأرجحاً كبيراً» خلال العقدين المنصرمين.
هذا مع تحديد بعض المنعطفات الأساسية التي ليس أقلّها بروزاً الحرب الجورجية، وضمّ شبه جزيرة القرم، والتدخل الدبلوماسي حول مشكلة الأسلحة الكيماوية في سوريا (صدر الكتاب قبل التدخل الروسي العسكري في سوريا).
من النقاط الأساسية التي يؤكّدها المؤلف، أنه منذ وصول بوتين إلى الرئاسة غدا هناك «انسجام كبير» في صياغة السياسة الخارجية الروسية.
في المقابل، إذا كان هناك ربط في الذهنية الغربية بين «الكرملين» وفلاديمير بوتين، فإن مؤلف هذا الكتاب يؤكّد «السلطة الشخصية» للرئيس الروسي الحالي. لكنه يعدّل عن ذلك حيث يكتب: «بوتين هو أبعد من أن يكون السيّد المطلق في جميع الأمور، لكن نفوذه الشخصي واضح على جميع مســـتويات السياسة الداخلية والخارجية».
بوبو لوو، يركّز في تحليلاته على السياسة الخارجية الروسية وعلى خلفيات الدبلوماسية الروسية في العلاقة مع العالم، من دون الإهمال الكامل للمسائل المتعلّقة بالتوجهات الاقتصادية والتجارية والواقع الديموغرافي الروسي، وفي جميع الحالات يكتب المؤلف من موقع العارف.. وبأدق التفاصيل.