من التجارب المؤلمة والفريدة التي يعيشها بعض الأهل، تلك التي تتعلّق بالعلاقة مع الأطفال الذين يعانون إعاقة ما تجعلهم «مختلفين»، إلى هذه الدرجة أو تلك، عن الأطفال الآخرين. وفي كل حالة من هذه الحالات هناك علاقة خاصّة بين الأطفال المعنيين وبين الأهل الذين يحيطون بهم.

وتحت عنوان «سارق فُرَش الأسنان» تقدّم أغلانتين إيميي، الصحافية ومقدّمة البرامج التلفزيونية الفرنسية، كتاباً تروي فيه الحياة اليومية التي عاشتها مع ابنها «سامي» الذي يبلغ اليوم العاشرة من عمره، والذي يعاني من «التوحّد» ومن نوبات «الصرع» التي تتكرر بين حين وآخر، وعدد من الإعاقات المرافقة لذلك.

تشير المؤلفة في مقدّمة هذا العمل إلى أنها عانت الكثير مع طفلها «سامي»، وسئمت من أولئك الذين «لا يفهمون أي شيء» وسئمت من «المجتمع الذي لا يفعل أي شيء».

وتضيف: «كتبت هذا العمل من أجلك يا صغيري العزيز على قلبي والمختلف عن الآخرين، وكتبته من أجلي، ومن أجل أخيك كي لا ينسى تلك اللحظات الضاحكة التي تخللت، رغم كل شيء، حياتنا اليومية. وكتبت هذا العمل دون مراعاة أحد فلم يراعني أحد. إنها قصّة معركتنا وقصة حبّنا أيضاً».

حكاية أمّ شابّة واجهت تجربة «الإعاقة» التي يعاني منها طفلها. وفي الوقت نفسه شهادة حيّة و«دون رتوش» عمّا تعتبره المؤلفة واقع عدم الاهتمام الكافي، بل واللامبالاة التي يعيشها المجتمع الفرنسي حيال مشكلة اجتماعية لا يمكن تجاهلها.

تقدّم أغلانتين إيميي، قصّتها من الحديث عن نفسها وعن عملها في عالم الصحافة ثمّ في القطاع التلفزيوني اعتباراً من عام 1999 لتؤكّد أنها كانت تعيش حياة «مريحة وميسورة» مع طفلها الأوّل «ماركو»، الهادئ واللطيف، والذي كان في غاية السرور عندما علم أنه سيكون له بعد فترة وجيزة «أخ».

في شهر أغسطس من عام 2005 كانت ولادة ذلك الأخ «سامي». وتصف الأم أن فترة حملها كانت في أحسن الأحوال بالقياس إلى حملها بابنها الأوّل. وبدا أن الأمور كلّها تسير على ما يرام بعد الولادة الثانية. لكن سرعان ما ظهرت بعض العوارض غير الطبيعية مثل ألم شديد في الرأس و«تباطؤ كبير في ردود الفعل العصبية».

وفي عمر الثلاثة أشهر لم يكن «سامي» قادراً على رفع رأسه. وتروي المؤلفة ــ الأم أنها صرخت فيه ذات مرّة «بعصبيّة» من الألم: «أنت لست سوى لعبة رخوة من قماش».

ومع بلوغه الستة أشهر بقي «رخواً» و«يريل كثيراً» و«ينظر في الفراغ». ثبت أن هناك مشكلة «إعاقة» واضحة. وفي مثل ذلك السياق لم يتأخر بروز المصاعب بين جمع الأم بين مسارها المهني كـ«إعلامية ناجحة» وبين «الحالة العائلية التي غدت معقّدة».

تصف الأم ــ المؤلفة على مدى العديد من الصفحات تلك الفترة الصعبة والمثيرة التي استمّرت شهوراً عدة من الشكوك، وزخرت بمختلف أشكال القلق والمخاوف قبل الوصول إلى عملية تشخيص واضحة للحالة المرَضية التي يعاني منها الطفل «سامي».

ثم ّ«جاء الحكم الطبي واضحاً وقاسياً بأن الطفل عانى من نزف دماغي نادر الحدوث، في الأيام الأولى لولادته، وهو يعاني بالتالي من «التوحّد» ومن نوبات «صَرَع» وإعاقات أخرى. وبدأت معركة مواجهة مستلزمات الحياة اليومية والمنظور المستقبلي لطفل معاق.

ومن خلال التعرّض لتوصيف الحياة اليومية تحاول المؤلفة عبر تجربتها الشخصيّة، أن تلقي أضواء جديدة على المسائل المتعلّقة بـ«الإعاقة». لكن ذلك من خلال عملية توصيف لوقائع وليس مجرّد الخوض في البحث عن استجداء التعاطف الوجداني. هكذا مثلاً تشير أنه في بلد مثل فرنسا لا تملك أغلبية دور استقبال المعاقين المرافق العامّة بدرجة كافية.

وتشير المؤلفة بأشكال مختلفة في هذا الكتاب أن «للحبّ» الذي يمكن للأهل أن يقدموه لأبنائهم المعاقين في أحيان كثيرة «أثراً سحرياً كبيراً» لدى أبنائهم. لكن هذا لا يمنع أن هؤلاء الأهل يصلون في أحيان كثيرة إلى درجة من الانهاك، ما يهدد نبع العواطف بـ«النضوب شيئاً فشيئاً». هذا خاصّة في ظل غياب أي أمل في تغيير بحالة الأطفال في الأفق.

وزاد في تعقيد الأمر أن «سامي» كان «صعب المزاج» و«يصرخ باستمرار». تكتب المؤلفة ــ الأم: «لو تركته كان قادراً على الاستمرار في الصراخ ساعات وساعات دون أن تتوصّل أيّة وسيلة إلى تهدئته. صراخ حقيقي وكأنه يتعرّض لخطر يثير لديه الرعب. وكان يضرب نفسه باستمرار بحيث تبدو آثار الضرب على وجهه في صباح اليوم التالي».

ولا تتردد المؤلفة في أن تعترف أن الكثير من «الأفكار السوداء» مرّت في رأسها. ولكنها تؤكّد بالوقت نفسه أنها شديدة التعلّق بطفلها وتعتبر ذلك «برهاناً على أنه يمكن للحب أن يكون باتجاه واحد».

ذلك أن «سامي» لم يكن ينظر إليها ولا يقبل نحوها ولا يفتح ذراعيه لها. هكذا لم تعش أمومتها معه، كما تحسّ الأمومة. وأنها ليست أكثر من «آلة تقدّم له الطعام والشراب والأدوية». من هنا ساد لديها الإحساس بأنها مهما فعلت «لن تسير الأمور كما ينبغي».

مع مرور الزمن كبر «سامي» وأصبح من الصعب حمله وقيادته. وتؤكّد المؤلفة ــ الأم، أنها وجدت نفسها أمام نوع من «الغياب الإداري الكامل». ولم تقبل أيّ مؤسسة أن تتولّى مسؤولية العناية بابنها المعاق. تكتب: «لقد طلبوا منّي أن أقدّم ما يثبت أن سامي معاق بالنسبة لعام 2011. كان ذلك أمراً غريباً، وكأن سامي لم يكن معاقاً بنسبة 80 بالمئة عام 2010 مثلما في عام 2012».

الحلّ الذي انتهت له إغلاتين إيميي هو أن تضع سامي في «مؤسسة مختصّة». وتروي أنها أمضت معه في الصيف الماضي «15 عشر يوماً عامرة بالسعادة، حيث ساد لديها الشعور بأنهما يتعارفان». وأيقنت أنهما «انفصلا» كي يقترب كل منهما من الآخر. إن الكتاب، هو في مجمله، وقبل كل شيء، عن الحياة اليومية الصعبة التي يعاني منها أهالي الأطفال الذين يعيشون إعاقة.

لكنه أيضاً كتاب عن الحبّ الذي وهبته أمّ لطفليها. وعن الشجاعة التي تحلّت بها في سرد الكثير من تفاصيل ما عاشته مع ابنها المعاق «سامي» وكيف كانت تجد نفسها في مرّات كثيرة تنتقل في طرفة عين «من الضحك إلى الدموع».