للتجول وسط البلد والشعور بنكهة المشي في الشوارع العتيقة والأسواق الشعبية بالعاصمة الأردنية عمّان، لذة خاصة يغنيها إمعان النظر في أبنيتها القديمة، التي حفر الدهر تجاعيده وعلاماته عليها.
ولا شك أن الجولة حيثذاك، إحدى أهم أمنيات زائر عمّان، إذ إنها ستبقى ذكرى متميزة تستمد جمالها من عبق رائحة الكتب وأصالة التاريخ.
وفي ذلك المكان، وعلى امتداد الطرقات، حين تشرع تخرج من زاوية وتدخل إلى أخرى فتعبر رصيفاً وتنتقل إلى آخر، تبدأ تجذبك جهة ووجهة نوعية: حارس عمّان الشهير الذي لم ينم منذ حوالي 50 عاماً. ذاك حارس لا يرتدي خوذة ولا سترة واقية.
ولا يحمل سلاحاً للقتل أو العقاب، لكنه يرفع أقوى وأهم سلاح عرفته البشرية وهو العلم والكتاب. إنه فعلياً، حارس - مكتبة تدعى خزانة الجاحظ، افترشت بكتبها العاصمة الأردنية منذ 1967، وعمرها يزيد على القرن. كما تعد أقدم مكتبة في عمّان لكنها لم تشب أو تهرم رغم كبر سنها.
أخذت أطالع الكتب في «خزانة الجاحظ»، التي تختلف ألوان أغلفتها ويختلف معها نوع الكتاب الأدبي والعلمي. أمسكت كتباً عدة وأخذت أقلب صفحاتها واقرأ عناوينها ووقع ناظري على عنوان ملفت لكتاب «ديك الجن». أخذت أتصفح الكتاب وددت معرفة المزيد عنه، فرأيت شخصاً جالساً على أحد المقاعد هو الذي كان يساعد الزوار على اختيار الكتب فسألته: «هل أنت صاحب المكتبة؟
فأجابني نعم، رددت عليه بسؤال آخر: عن ما يتكلم الكتاب وما نوعه الأدبي. أجابني بنبرة ممزوجة بالوقار والود: يا ابنتي هذا الكتاب يضم مجموعة من القصص عن المجتمع الأردني، وهو من الكتب التي أثارت ضجة في الآونة الأخيرة». اشتريت الكتاب، وعندما هممت لدفع ثمنه، قالي لي:
إن جميع من يقتني كتاباً من هنا، يمكنه القدوم هنا بعد شهر واستبدال الكتاب بآخر بدينار واحد فقط. شعرت من هذه المحادثة السريعة أن صاحب المكتبة يتبنى رسالة غير ربحية، ويحاول بطرق مبتكرة، جذب الجمهور إلى الكتاب وعوالمه الواسعة والمنيرة، ضمن أعرق وأقدم مكتبة في عمّان: «خزانة الجاحظ».
20 ألفاً
هشام ممدوح المعايطة التميمي، هو صاحب مكتبة «خزانة الجاحظ» اليوم، وهو الحفيد السادس في العائلة المالكة لها. لقّبه أهالي عمّان وأولئك الذين يترددون باستمرار على «خزانة الجاحظ» لاقتناء واستعارة الكتب بـ «عراب عمّان» للكتب.
أما والد المعايطة، فلقّب بالجاحظ، وأطلق عليه هذا اللقب لجحوظ عينيه وحبه للقراءة. وينحدر هشام من عائلة وراقين، كانت تكتب الكتب بأيديها وتنقلها للمشايخ في صاع خليل الرحمن، وهي من أنشأت المكتبة ومن تقوم عليها اليوم.
الحفيد المعايطة، قرأ أكثر من 20000 ألف كتاب. وكان قديماً يعمل مهندساً زراعياً، زرع 20 دونماً و600 شجرة زيتون، لكن شغفه بالقراءة دفعه لترك عالم الهندسة والإبحار في عوالم الكتب والمعرفة.
نشأة وتنقل
وتحدث المعايطة عن قصة المكتبة وعمرها، والذي يمتد إلى أكثر من 120 عاماً، عارضاً في كلامه لسير من مروا عليها وتعاقبوا على زيارتها في القدس والخليل والشام وعمّان:
نشأت مكتبة خزانة الجاحظ أو خزانة «آل التميمي» في العهد العثماني على يد خليل سلمان التميمي في بيت المقدس، وكانت تسمى بـ «صاع خليل الرحمن» وكان يقصدها الفقراء والعلماء الصوفيون، كما اعتنت بتدريس أبناء القبائل في الأردن. وفعلياً، تشمخ خزانة الجاحظ وكأنها متحف تاريخي له تجربة في التنقل، فهي لم تستقر في مكان ثابت منذ إنشائها.
«مصطبة الكرك»
كانت قبيلة بني تميم التي ينتمي لها المعايطة، تتنقل بين نابلس والخليل والقدس والكرك وكانت المكتبة تسمى بـ «مصطبة الكرك» خلال أيام الدولة العثمانية والمماليك وعاصرت زمن صلاح الدين الأيوبي.
يقول المعايطة لـ «البيان» إن أجداده انتقلوا إلى القدس كمجاهدين واستلم المكتبة والد هشام في عام 1948، لكن بعد إصابته في قلنديا، انتقلت المكتبة مع هشام إلى عمّان.
انتقلت هذه المكتبة إلى العراق وسوريا والأردن مع الثورة العربية، وحطت رحالها في عمّان عام 1967، لتتنقل بين كل أنحاء العاصمة الأردنية مع العلم بأنها امتازت بحضور قوي في المواقع الأثرية.
و«خزانة الجاحظ» لا توجد داخل مبنى أو تنفرد بمحل خاص بها على الشارع، وإنما هي أكشاك بسيطة تأخذ شكل الكرفان الخشبي لنقلها بيسر وسهولة عند الحاجة، وتتخذ أربعة أماكن لها في الأردن، أبرزها: وسط البلد في عمّان.
كنوز
على مسافة أمتار من موقع «خزانة الجاحظ» وسط البلد، يشتم عابر المكان رحيق الكتب تفوح وتطغى على روائح الطعام والحلويات من المحلات المجاورة، لتحيط الزائر بأجواء تغمرها المعرفة مشبعة بعبق الأصالة والتاريخ العتيق.
وعلى مدار العام، يحج طلاب العلم والمعرفة والمثقفين والباحثين من جميع أنحاء الوطن العربي والعالم، إلى خزانة الجاحظ. فهي بحجمها الصغير أشبه بالمفتاح الذي يفتح أعتى وأضخم الأبواب الموصدة رغم بساطة حجمه، فتجلو رفوفها عتمة الجهل بما تحتضن من كنوز علمية وأدبية. وفيها الكثير من أمهات الكتب الدينية الإسلامية والمسيحية.
وكذا نفائس الكتب ونوادرها، وكتب بمختلف اللغات، يصل عمر أقل كتاب منها إلى 100 عام، وتضم «خزانة الجاحظ» مجموعة واسعة ومتنوعة من الكتب، مثل الروايات العالمية والأدبية والمجلات الفكرية والكتب السياسية الإسلامية والفكرية التاريخية كاملة، بشتى اللغات:
العربية والإنجليزية والفرنسية. كما أنها تمتلك إرثاً ثقافياً ذا قيمة عالية تناقلته الأجيال. فهي تشتمل على مخطوطات عمرها 300 عام أو أكثر..وغير ذلك الكثير.
رسالة
يتبين الزائر والمتتبع لهذه المكتبة، أنها صاحبة رسالة قيّمة ومسؤولة مجتمعياً. ويلخص المعايطة ذلك: تهدف إلى نشر ثقافة القراءة والمعرفة استناداً إلى مبدأ «كتابي كتابك».. إنها الرسالة الأسمى للمكتبة التي بقيت ثابتة بقاء أبوابها مفتوحة للجميع، على مدار السنوات الفائتة.
وإضافة إلى ذلك، تهدف المكتبة التي لا تلهث وراء الربح المادي، إلى شراء الكتاب المستعمل من البيوت العمّانية. وإحياء اللغة العربية هو أحد هواجسنا. إذ نسعى إلى تشجيع الاستعارة لتحفيز القراءة باللغة العربية.
دينار
يركز صاحب المكتبة، هشام المعايطة، على نشر وتشجيع القراءة إن القراءة بدينار واحد فقط، والجميل في الأمر أنه ساعد مجموعة من زوار المكتبة على إنهاء رسالة الماجستير، بدينار واحد فقط. ويؤكد أنه قادر على إعطاء أي باحث رسالة بحثه في خمس دقائق، من مراجع قديمة.
وبين جنبات المكتبة، يصادف القراء أوراقاً برتقالية اللون معلفة على ألواح الخزانة الخشبية خُطت عليها جملة «الاستعارة للاستنارة.. اقرأ واستبدل ما قرأت».. وجملة «استعر كتابك من عندي».
عشق المعايطة للكتاب وإيمانه بالدور الكبير الذي يلعبه في نشر الوعي في المجتمع وإخراجه له من الظلمات إلى النور، أمور جعلته يبتكر طرقاً متنوعة لتحفيز الجمهور على القراءة.
وحول ذلك يقول: «يمكن لرواد المكتبة الحصول على كتاب جديد عند إرجاع كتاب قرؤوه سابقاً، إلى المكتبة، شريطة أن تكون الكتب في حالة جيدة، ذلك لغرس حب القراءة لدى الأفراد وللحفاظ على قيمة الكتب. كما بوسعهم استعارة كتاب لمدة شهر مقابل دينار واحد تقريباً، حيث أحاول قدر المستطاع مراعاة الأوضاع الاقتصادية الصعبة للناس وعدم إرهاق ميزانيات زواري من طلاب المدارس والجامعات».
شبكات التواصل
ويبين المعايطة أن شبكات التواصل الاجتماعي أسهمت في زيادة وعي الجمهور حول المكتبة، واختصار المسافات بين الطرفين بشكل كبير. إذ تملك «الخزانة» صفحة على موقع «فيسبوك» ينشر عليها المعايطة معلومات عن الكتب، مرفقة بأغلفتها.
ويرصد انطباعات وتفاعل معجبي الصفحة مع اختياراته من الكتب. ولكن، يشير المعايطة إلى أن قنوات التواصل أشغلت بعض الشباب عن الكتاب. إذ لم يعد مرجعهم الأول للمعلومة في ظل انتشار «الإنترنت» و«السوشيال ميديا».
الرواية في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً
«الرواية هي التي تتكلم عن الواقع المؤلم للوطن العربي»، هكذا يرى هشام المعايطة دور وقيمة الرواية، والتي تتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في مكتبته. ويضيف: أصبح على الرواية العربية والمترجمة إقبال، وبالأخص الروايات التركية المترجمة. كما حظيت الأخيرة بتبادل تجاري وأدبي كبير.
وجبات ثقافية متاحة للجميع بأيسر الطرق
يقف رواد المكتبة أمام رفوفها الدائرية. وهم، وإن اختلفت ميولهم الأدبية، تجدهم قد اجتمعوا على حب الكتاب ليختاروا وجبات غذائهم الروحي والمعرفي، من بين آلاف الكتب القديمة والحديثة. فكل زائر للمكتبة سيجد ضالته من المعرفة في خيمة «خزانة الجاحظ»، خاصة في ظل وجودها بين الناس في الشوارع، وليس في أماكن مغلقة، فذاك يجعلها أقرب لهم وذات طابع شعبي يتلاءم مع حيوية المكان.
وهو ما أكدته القارئة النهمة، والزائرة الدائمة للمكتبة، روان أحمد. وأضافت: الجميع سواسية في حضرة الكتاب. وليس هناك فرق بينهم إلا بقدر ما طالعوا من الكتب. وفي السياق، قال صهيب شاهين «طبيب وقارئ نهم»: الكتب هي وسيلة للتداوي من هموم ومقاساة الظروف الحياتية اليومية في المجتمع.