الخميس 5 ذو الحجة 1423 هـ الموافق 6 فبراير 2003 ممثلة السينما أشبه بالسجينة في قفص من ذهب «القفص هو شهرتها» لا تأكل إلا بحساب ولا تنام أو تمشي أو تتكلم أو تبتسم، وحتى لا تضحك إلا بحساب إنها محرومة من حرية الاستمتاع بحياتها الخاصة فضلا عن حياتها العامة في كل خطوة من حياتها وهي تخشى حساب جمهورها. هذا ما عبرت عنه قبل 40 عاماً الفنانة الكبيرة مريم فخر الدين في مقالة نشرت عام 1962 بمجلة الكواكب تحت عنوان «قضبان من ذهب» لخصت من خلاله حياتها كفنانة وراسمة شكل وأسلوب وسلوك جيلها من نجمات الزمن الجميل الجيل الذي عشق الفن فأعطاه كل شئ وترك لنا ثروة لا تقدر بثمن من الأعمال العظيمة. جيل لا يتكرر وجيل مريم فخر الدين الذي ظهر مع بداية الخمسينيات من القرن الماضي وضم فاتن حمامة، ونادية لطفي، وسعاد حسني، وشادية، وماجدة، ولبنى عبد العزيز يعتبر هذا الجيل من أهم الأجيال الفنية على الإطلاق ليس لقيمة ما قدمه للفن، ولكن لانه عايش أهم فترة تاريخية مرت بها مصر والوطن العربي مارسوا إبداعهم في زمن الابداع وتجاوز عطاؤهم حدود الفن ليؤدوا أدوارا أخرى في الحياة العامة والسياسية وارتبطوا بعلاقات مع شخصيات مهمة ومؤثرة كان على رأسها الزعيم جمال عبد الناصر لذلك فشهادات وذكريات هؤلاء النجوم مهمة، تأريخ لحياتنا، وتصحيح لأحداثنا، ودروس لحاضرنا، وقناديل لمستقبلنا ومن هنا انسابت معي ذكريات الفنانة الكبيرة مريم فخر الدين. مكان عتيق في الطابق الرابع بالمبنى رقم 47 المطل على شارع مراد بالجيزة - أمام حديقة الحيوانات وبالقرب من النيل بأمتار قليلة تعيش مريم فخر الدين منذ نهاية الأربعينيات في شقة بالنسبة لها مكان يحفل بذكريات الفن والسياسة والادب. فقريبا من منزلها تقع فيللا أمير الشعراء أحمد شوقي، ومن الشرفة تشاهد تمثال نهضة مصر رمز المصرين وتخليد ثورة 1919،وتشاهد المحبين وهم يرتادون حديقة الأورمان، أو وهم يبتسمون أثناء مرورهم امامها، وقريبا منها أيضا شقة فريد الأطرش التي خرجت منها ألحانه الجميلة، وكوبري الجامعة والكثير من المناظر الجميلة في القاهرة. شقتها عتيقة في أثاثها وأجهزتها وكل ما بها من موديلات الأربعينيات، أشياء قيمة وجميلة في شكلها ونوعها. ومريم تحتفظ بهذه الاشياء لأنها تحمل معها ذكريات قديمة ارتبطت بأول زواج لها من المخرج محمود ذو الفقار وهي ما زالت في مرحلة المراهقة. قفص الذهب في الجلسة الأولي لتسجيل هذه الذكريات مع مريم جلسنا سوياً في غرفة هي الوحيدة التي فيها جهاز التكييف وفيها لمست أشياء قد تكون غريبة فهي أشبه بحجرة مكتب أو مكان للمعيشة فيها أوراقها وصور عقود أفلامها والسيناريوهات والقصص الأربعة التي كتبتها على أمل إنتاجها، والجوائز التي حصلت عليها وكانت غرفة مريحة للعمل أبرقت في ذهني فكرة مقالها الشهير بالكواكب عن الشهرة التي هي قفص من ذهب تسجن به الممثلة السينمائية. وعندما قلت لها ما جال بخاطري عن مقالها بدأت تتحدث على سجيتها بلا أقنعة وبصراحة نادرة فيمن قابلتهم من نجمات قالت: أذكر أيام صباي قبل أن أعرف الشهرة، قبل أن أدخل القفص الذهبي مازلت اذكر تلك الأيام التي قضيتها على شاطئ بحيرة قارون حين ولدت وعشت أعوام صباي التي بدأت فيها وكأني أكبر من سني بأعوام كثيرة وأتذكر العدد الكبير من الخطاب الذين كانوا يطلبون يدي ومنهم عريس مليونير جاءني وهو يحمل في يده دفتر شيكاته يعرض على أبي أن يضع الرقم الذي يرتضيه مهرا لي بعد أن وقع له شيكا على بياض . الثري العاشق وأغرب عريس جاءني في تلك الفترة هو ذلك الثري العربي الذي جاء يجر قوافل الهدايا يريد خطبتي وانا في الرابعة عشرة من عمري، وكان والدي يسألني رأيي في كل خاطب يتقدم لي، وكنت بطبيعة الحال أرفض، بسبب حالة الدلع التي كنت اعيشها لكن حالة «الدلع» هذه تغيرت بعد عملي بالسينما فلم أعد أرفض أي شيء أو حتى مجرد إبداء الاعتراض داخل البلاتوه فالسينما كانت وقتها لها تقاليد وقوانين صارمة تجعل الفنانة رهن إشارة المخرج إذا طلب منها أن تؤدي دورها فلا ينبغي لها أن تتردد لحظة واحدة وكنت قبل ظهوري في السينما من هواة ركوب الخيل والمشي لمسافات طويلة وبعد الشهرة حرمت من هاتين الهوايتين لان الناس لا تتركننا وشأننا نمارس هوايتنا بحرية. وتواصل مريم حديثها قائلة ومن الأشياء التي لا يعرفها الناس عن حياة الفنانين صادف ان إحدى السيدات قابلتني مرة وقالت لي أنها كانت تتمنى لو أنها أصبحت نجمة سينمائية لتتمتع بما تتمتع به الفنانات من مجد وشهرة وحرية فضحكت ولم أرد عليها لأنها لو عرفت ما نعاني منه والممثلات تحديدا ما حلمت ولا فكرت ولا تمنت ذلك فنحن عانينا «الأمرين» وتعبنا جدا حتى أصبحنا نجمات سينمائيات. ديانتان في منزل مريم محمد فخر الدين هذا اسمها الحقيقي ولدت في 8 يناير 1933 بالفيوم والدها محمد ولد بالمملكة العربية السعودية وتحديدا في جدة والدته كانت تدعي فاطمة سعودية ووالده تركي مصري وعندما توفي أرسلته أمه الى ألمانيا ليدرس الهندسة رغم أنها كانت أمية وعندما انتهى من دراسته عاد إلى مصر فتم تعيينه فورا مهندساً بالري حيث كان الإنجليز يسيطرون على الهندسة والري في مصر ومع قيام ثورة 1919 وبث الروح الوطنية بدأ المتعلمون المصريون يأخذون حقهم في الوظائف الحكومية. وعندما ولدت مريم كان الأب لدية 42 سنة وتقول عنه مريم : والدي كان في نظري أحسن أب في الدنيا وكان شديد التدين حريصاً على اداء الصلاة في أوقاتها وكان مهندسا للري بالفيوم يخرج للتفتيش على الري بالأراضي الزراعية على حصان اسمه «ناس» وكان أحيانا يأخذني أمامه على الحصان وقتها لم تكن هناك سيارات جيب ولا خلافه. وشاهدت مع والدي فيضان النيل الذي أغرق القرى والنجوع وكان والدي يقود الفلاحين بوضع «أجولة» الرمال في أماكن جريان المياه وذلك منعاً لمزيد من جرف المحاصيل وهدم البيوت. أما أم مريم فخر الدين فكانت مجرية تدعي «باولا» وتقول مريم عنها: أمي كانت شديدة الجمال فهي أوروبية من المجر وكانت مسيحية متطرفة اكثر من البابا في روما وارتبطت بوالدي بقصة حب نادرة استمرت 18 عاما وبالرغم من كونه مسلماً وهي مسيحية الا انهما كانا متفاهمين وكل منهما يحترم ديانة الأخر لدرجة انه يقوم بايصالها إلي الكنيسة ويعمل لها بنفسه شجرة الكريسماس. وكانت والدتي تحترم والدي وعاداته وتقاليده فعندما يأتي رمضان كانت تحثنا على الصيام ولا تأكل إلا معنا على مائدة الافطار بالاضافة الى ان الوالد كانت يكلفها بتوزيع الزكاة لمن يستحقها. كانت رحمها الله خواجاية وكلامها يوحي بأنها أجنبية، وعندما مات والدي وجدتها تحضر ظروفاً وتضع بها الزكاة وتوزعها بنفسها وفاء لوالدي ولم تكف عن ذلك حتى توفاها الله. وربما الحياة النادرة التي عاشتها مريم بين والدين متعددي الجنسيات والثقافة ومختلفين في الديانة ويسود بينهما الحب والتسامح والاحترام كان قوام شخصية مريم التي ستصير مع بداية الخمسينيات من نجمات مصر والعالم العربي وتقدم اعمالاً فنية من أهم كلاسيكيات السينما الشرقية فيلم «رد قلبي» وتتوالى حوادث حياتها ما بين قصص حب وسياسة وفن وذكريات مبهجة ومأساوية تحدثنا عنها في الحلقات التالية