أهلت عوامل قيمة وغنى المادة المعروضة في كتاب "بحرنا المشترك الشرق مهد الغرب"، من تأليف ياكو هامين أنتيلا وترجمة مارية باكلا، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، الجهة التي أصدرته، إلى تحقيق إنجاز نوعي، يتمثل في حصوله على جائزة "أفضل كتاب مترجم إلى اللغة العربية في الفنون والآداب والإنسانيات"، أخيراً، ضمن فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب( الدورة 36).
يستعرض الكتاب الموزع على 300 صفحة، من القطع المتوسط، العلاقة بين الشرق والغرب، بعد عملية ترتيبية لحقبة تاريخية لا تزال مستمرة، منذ 2500 عام، إذ يوضح أن الثقافة الغربية ولدت في الساحل الشرقي لمنطقة حوض البحر المتوسط، وأن أوروبا لم تكن هي نفسها، من دون ذلك العالم الذي كان يحيط بها.
مؤثرات ثقافية
قسم المؤلف، هامين، كتابه، إلى ثلاثة أقسام، ضمت عددا من الأبواب، وسبقتها كلمة المترجمة، مارية، ذكرت فيها أن المؤلف سعى إلى توضيح المؤثرات الثقافية للشرق على الغرب، للقارئ في فنلندا( الدولة التي صدر فيها الكتاب اساساً). وفي القسم الأول من الكتاب: "الزمن القديم"، لفت المؤلف، في باب عن الشرق الأوسط وأوروبا، إلى أن أوروبا تعني بالإغريقية "أرض الغروب"، وأيضا تحكي المثيولوجيا الإغريقية، عن الأميرة الفينيقية "أوروبا"، التي اختطفها زيزس من فينيقية إلى جزيرة كريت، وهو ما يعني، حسب هامين، أن جذور أوروبا ممتدة إلى الشرق الأوسط. ثم يتناول في الباب الثاني، موضوع الشرق الأوسط والعلاقات مع غير الإغريق، مشيرا إلى وجود عولمة منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.
وبحلول العام 2500 ( ق م)، خرجت إلى الوجود شبكة تجارية دولية واسعة، وكان أبرز المراكز التجارية آنذاك بلاد الرافدين وبلاد الشام، ومصر. ويتحول المؤلف، بعدها، إلى عرض ومناقشة باب خاص، حول الشعوب واللغات، إذ يقسم لغات حوض البحر الأبيض المتوسط، إلى أربع مجموعات أساسية، ويرى أن السومرية :"لغة سكان بلاد الرافدين"، أقدم اللغات في التاريخ البشري. وفي تعريفه أنظمة الكتابة، أكد هامين أن الإغريق يعرفون أن الكتابة جاءت من الشرق، واخترعت، حسب رأي الباحثين، قبل الألفية الثالثة( ق . م)، على يد السومريين، وانتشرت الفكرة إلى مصر.
.. في الأدب والعلوم
أوضح مؤلف الكتاب، في خصوص محاور دراسته، ضمن مجال الأدب، أن ثمة الكثير من الأمور المشتركة، بين اليونان في القديم، وكل من مصر وسوريا، في حقول الأدب. وبالنسبة للدين، أي معتقدات الآلهة، بين المؤلف، أنه يبدو واضحا، ان الدين الإغريقي القديم هو في أساسه، هندوأوربيا، كما يجزم بأنه وصلت إلى اليونان، تأثيرات عدة، من ثقافات حوض البحر الأبيض، فآلهة عشتار وتموز في الشرق هي إنانا، ودموزي عند السومريين في بلاد الرافدين، وقصة أرفيوس تشبه ملحمة جلجامش. كما يستعرض المؤلف دور الشرق وتأثيره على الغرب، في العلوم.
تناول مؤلف الكتاب، في الفصل الثاني:" العصور القديمة المتأخرة"، مجموعة أبواب تفصيلية، ركزت على الشرق الأوسط الهلنستيني، وذلك عبر حروب الاسكندر الأكبر الذي روج للثقافة الهلنستية في الشرق الأوسط، لتنتقل من بعدها، إلى الثقافة العربية الإسلامية، والتي انتشرت مع الفتوحات. وفي الفصل الثالث: "العصور الوسطى"، تحدث هامين، في أبوابه الـ (11)، عن عدة محاور، مثل : انتقال الثقافة الإسلامية إلى أوروبا، ويشير المؤلف في هذا الصدد، إلى أن الأندلس بقيت ناقلة الثقافة، وكذلك التجارة والتنقل، إلى أن جاءت الحروب الصليبية.. وحدد هامين تأثير الثقافات العربية في العصور الوسطى، ومنها التأثيرات التي تغلغلت في جذور الثقافة الأوروبية وانصهرت فيها، ومنها ما لا يزال ظاهرا في الحياة اليومية الأوروبية، متناولا تأثير الطب والفلسفة واللغة في هذا السياق.
حقائق
يخلص مؤلف الكتاب، في ختام أبحاثه ومناقشاته، إلى خلاصات حقيقة علمية جوهرية، يؤكد خلالها، أن أوروبا ولدت وسط حوارات وتدفقات واستعارات ثقافية، على امتداد مئات السنين التي أحدثت خلالها، المناطق الشرقية والجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط، تأثيرا كبيرا في مضمون فكر وحياة مجتمعات شمال المنطقة، ومن ثم استعارت الثقافة الغربية من الشرق والجنوب، الكثير، قبل أن تتمكن من أن تعيش عصرين ذهبيين.
إضاءة
يعمل البرفسور ياكو هامين أنتيلا، أستاذا للدراسات العربية والإسلامية في جامعة هلنسكي في فنلدنا، وهو باحث وكاتب وشاعر ذو مكانة علمية وأدبية واجتماعية مهمة. ترجم القرآن الكريم إلى اللغة الفلندية، كما ترجم ملحمة جلجامش وسيرة ابن هشام، وغيرها من المؤلفات. وهو حاصل على العديد من الجوائز الوطنية والدولية البارزة.