يدرك الزائر لأمسية الفنون في قرية البوابة بمركز دبي المالي العالمي التي احتفت أول من أمس من خلال الغاليريهات بافتتاح موسمها الفني الجديد، أن زيارة المعارض وتذوق جماليات الأعمال الفنية، أمر ليس محصوراً بعشاق الفنون أو نخبة المجتمع كما هو شائع، فكل معرض يفتح لزائره آفاقاً جديدة فيها المعرفة والفكر. ليبدأ بعد مشاهداته بالتفكير خارج إطار قوقعة شجونه الداخلية التي تتضخم وتتكلس كلما ازدادت عزلته وانكفأت روحه، لتكون الفنون بمثابة البلسم الشافي والملهم للانفتاح على الآخرين والتميز والإبداع.

وتشبه ساحة قرية البوابة مقر تجمع عدد كبير من الغاليريهات ذات المعايير العالمية، بمنطقة الحي الذي تربط الألفة بين سكانه ومرتاديه على مر السنوات. وينتقل الزائر بين بيوت الغاليريهات من عالم إلى آخر محوره الفن وجوهره الإنسان، ومع كل لغة بصرية يتعلم المزيد ويكتسب المزيد من المعارف التي تجعله يتجدد مع كل خطوة وفي كل لحظة.

مخيلة الطفولة

توجه الزائر في بداية جولته إلى معرض «التحول» في غاليري آرت سوا بدافع انجذابه للألوان الفوسفورية الديناميكية، لترتسم البسمة على وجهه لحظة دخوله وحتى مغادرته المعرض. فالمنحوتات المعروضة للفنانة التونسية ريم القروي، مختلفة وجديدة وتجمع بين مخيلة وحيوية الطفولة. وهي مستلهمة من عالم الإنسان والحيوان والرجل الآلي، طريفة ورشيقة ودقيقة، خاصة وأن ريم استخدمت مادة «ريزن» التي يمكن تطويعها تبعاً لمهارات الفنان.

بورتريه عائلي

وينتقل من المرح إلى حالة من التأمل العميق لدى مشاهدته لوحات «بورتريه عائلي» للتشكيلي السوري الشاب مهند عرابي، الذي تمكن بحساسيته الفنية العالية من ملامسة وجدان المشاهد ومشاركة شخوص عائلات لوحاتهم حزنهم الشفيف الذي يجمع بين النبل الإنساني والترفع على الألم.

واستطاع عرابي أن يدخل في عوالم ذاكرة الإنسان حينما يتزعزع استقراره ويفقد الأمان لتتشتت الأسرة والأفراد في أصقاع الأرض ولا يبقى معه منهم سوى كما يقول عرابي: الذاكرة التي تتشكل في لوحاتي عبر العمق الكامن في العينين وانعكاسات ظلال ما يوحي بغلالة دانتيل على أجسادهم لتتراكم أزمنة الذاكرة عبر اللباس. وبتقشف لوني يريح الناظر بعمقه، يبقي عرابي مساحة الخلفية بلونها الرمادي حيادية كما لو أن من معها منفصل عن محيطه.

نساء مرفهات

ويحصل الزائر على مساحة من الهدوء ليعيش في جماليات الفن الراقي مع أعمال الفنان حسين ماضي الذي يعتبر من رواد فن الحداثة بلبنان في الغاليري المجاور «آرت سبيس»، لا سيما وأن أسلوب ماضي يقارب الفنان الإسباني بابلو بيكاسو في طريقة رسمه للنساء المرفهات بخطوط رشيقة وألوان هادئة وباردة. كما شارك في غاليري كوادرو مجموعة من الفنانين من أذربيجان الذين تنوعت أعمالهم بين النحت والفن التركيبي والتشكيل، من ضمنهم التشكيلية عايدة محمودوفا والنحات فريد راسولوف.

جسر الحمرا

ويتوج الزائر متعته المعرفية لدى زيارته معرض «حوار شرق أوسطي» في غاليري الربع الخالي الذي يشارك فيه مصورون من منطقة الخليج وإسبانيا. وما يستوقف الزائر بداية صورة «أمواج زائلة» للإماراتي محمد أحمد أهلي الأشبه بمشهد سريالي لحظة الغروب، ولا يملك إلا الاقتراب من الصورة للتدقيق في التفاصيل ومعرفة سر الضباب المخيم على مساحة الأرض والجسر المتداعي. وكم يشعر بالفخر حينما يخبره أهلي أن هذه الصورة واقعية والتقطها في منطقة الحمرا برأس الخيمة، وما الضباب سوى مياه البحر بانعكاس الغروب، أما الجسر القائم فيحكي قصة الأجداد الذين كان وسيلتهم للوصول إلى السفن وتحميل بضائعهم، ويقول أهلي: في صورتي نداء لحماية وترميم هذا الجسر الذي يحمل ذاكرتنا لأجيال المستقبل.

ثلاثية يان بي مينغ

 اشتهر المصور الفرنسي جيرار رانسينان الذي جال العالم وشهد العديد من الحروب والكوارث الإنسانية، بإبداعه في التصوير الذي انتقل به إلى بعد آخر يشابه عوالم تجمع بين السينما والتشكيل، مع الأخذ في الاعتبار عدم استخدامه لأية تقنيات حديثة لمعالجة صوره.

وتكمن خصوصية أسلوبه لمواضيعه المركبة في عوالم الأزياء والدراما والطبيعة في كسره للحواجز المألوفة، ليقوم بتفكيك المشهد وإعادة بنائه برؤية نقدية تحمل درجة عالية من الجماليات.

تبدأ قصة هذه الثلاثية التي استغرق رانسينان في إكمالها ثلاث سنوات، من اليسار إلى اليمين، وتسرد صعود نجم الفنان التشكيلي الصيني يان بي مينغ. علماً أن إصدارات صور هذه الثلاثية لا تتجاوز ثماني نسخ

■ الصورة الأولى: تظهر في خلفيتها الرمادية صورة بطل السينما بروس لي، وكان بي مينغ في زمن لي قد بدأ العمل في باريس وحصول لوحاته الضخمة على بعض اهتمام عالم الفن، واقتناء البعض منها.

■ الصورة الثانية: يبدو بي مينغ أمام أدوات مرسمه وألوانه، وفي هذه المرحلة حقق شهرة واسعة وبيعت أعمال له بنصف مليون دولار.

■ الصورة الثالثة: يصل بي مينغ في هذه الصورة إلى أوج شهرته ليقف أمام الموناليزا، والتي سبق أن كلفه أحد المتاحف برسم الجوكندا لأجل معرضه الاستعادي، ووصلت أسعار لوحاته لليوم أكثر من مليون دولار.

توقيع كتاب

أقيم في غاليري «آر تسوا» حفل توقيع لكتاب «000000/FFFFFFم» ذو الطبعة الفاخرة للفنانة الأميركية اللبنانية الأصل لينا الفرّا التي جمعت ما التقطته بعدستها بعين المصورة وروح الإنسانة خلال أسفارها إلى 22 بلداً على مدى 12 عاماً. وتقول لينا عن عنوان كتابها الغريب: أصبحنا في هذا الزمن أرقاماً والأصفار الستة ترمز في العالم الرقمي إلى اللون الأسود، وأحرف «إف» الستة ترمز إلى الأبيض، وترجمتهما «الأبيض والأسود». ومن يتصفح كتابي يجد المقاربة والتشابه بين ثقافات يخال له أنها متباعدة سواء كانت من العالم الأول والثالث، أو من قارتين مختلفتين.

وفصول الكتاب بحد ذاتها رسالة إنسانية، فاللون الأخضر الفاصل يضم صور الأرض والطبيعة وأوجه الشبه فيها بين كمبوديا ومصر، أما الفصل الأحمر فيرمز إلى فصل «الناس» والمقاربات بين الشعوب وابتكار الثقافات لزي رسمي خاص بها، والوجوه الإنسانية وأوجه الشبه فيها بين الكبير والصغير، وتشابه العيون بين صبي ونمر. يُذكر أن لينا الحاصلة على ماجستير في الأعمال درست فن التصوير في مدرسة مختصة بواشنطن.

آخر سلالة العطارين

يتساءل الزائر لدى وقوفه أمام أعمال المصور العماني عيسى صالح الكندي في غاليري «الربع الخالي»، كم منا تتاح له الفرصة لمشاهدة الرجل المخضرم عبدالله الصقري آخر سلالة العطارين في عمان؟. ويروي الكندي قصته قائلاً: «يسعى عبدالله في بداية الموسم إلى الجبل الأخضر في عمان ليجمع الورد ويعود به إلى معمله في الجوار الذي يقيم فيه مدة ثلاثة أسابيع دون مغادرته ولو مرة.