في منطقة الممزر بدبي، حيث يتعانق الماء والرمل الأبيض، مُشكّلين بحيرات أو قل وروداً زرقاء كبيرة، وعلى أرض حرص قادتها وأهلوها على أن يعمروها بأجمل ما تُعمر به الأماكن والأزمنة، يقف صرح ثقافي فائق التميز في مظهره الخارجي وما تزخر به مساحاته الداخلية من فرص لكسب المعرفة الصافية.

وفي الوقت الذي تُكتب في هذه السطور أو تُقرأ، لعل ثلة مثقفين وتنمويّين تجتمع وتتجاذب أطراف الحديث فيما ينفع الإنسان والأوطان في رحاب هذا الصرح، وربما أجابوا، مبتسمين كعادتهم، ضيفاً سائلاً عن مرحلة تأسيس ندوة الثقافة والعلوم ثم تطورها الصاعد الخلاق، وكيف أن جلسة عشاء بين مجموعة شباب في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي أصبحت نواة لهذا القصر المشيد.

إنه لإنجاز يستحق أن يفخر به المؤسسون والسائرون على خطاهم، بل وأن يُسجل بغرض أن يبقى نموذجاً، كيف استطاعت هذه المؤسسة الوليدة أن تكسب ثقة المتبرعين والمانحين للإشراف على جوائز بالغة الأهمية، ثم كيف اجتذبت أبرز المفكرين والمبدعين العرب والإماراتيين.

أصدح فخراً بهذا الصرح: أنا أنتمي إلى هذا المكان. وقد حدث في نهاية التسيعينات من القرن الماضي أنْ تلقّيت اتصالاً هاتفياً من أحد الرواد الأفذاذ في الساحة الثقافية الإماراتية يدعوني فيه لإلقاء قصيدة في حفل توزيع جائزة الشيخ راشد للتفوق العلمي.

أقبل الدعوة بامتنان. فأحضر للتعارف والإعداد للحفل إلى شقة صغيرة في شارع الرقة بدبي. وحينذاك، كنت طالباً بكلية الهندسة في جامعة الإمارات، أقرأ وأكتب.. وأتعاطى مع المعرفة بما تيسّر لي من فهم.. الحقيقة أني كنت أضع القراءة تحت بند الترفيه الجاد. وكانت الدعوة تلك أشبه بغنيمة أو قل فتحاً، لا لاعتبار قيمة الحدث فقط، بل لما سيتشعب من الخط الممتد من هذه النقطة الزمنية. النقطة تكاثفت وتتابعت وأنتجت خطاً وآخر.. ثم شجرة.

أدركت أني كنت أقف وجهاً لوجه مع جمع من المفكرين الأوائل والكتّاب المبدعين ممن أسسوا ورعوا مسيرة المعرفة والانفتاح في وطني الحبيب، ولم يَفُقْ ما تملّكني من الإجلال لهذه الثلة إلا الرهبة، إنه الإحساس بثقل المسؤولية إثر الإدراك أن الدرب لا يزال طويلاً. لكنني أيضاً، وجدت ضالتي: النادي الكبير الذي يعتمد المعرفة نشاطاً( ندوة الثقافة والعلوم).

ماذا لو كانت ندوة الثقافة والعلوم بدبي قد تأخرت قليلاً؟ ماذا لو لم تكن البتة؟ غني عن القول إن استشعارنا للغياب يعمق تقديرنا للحضور، فهذا المنبر الفريد الذي يقترب من إتمام عقده الثالث، ينشر الضياء ويبث عبير المعرفة. ولا نستطيع تصور البيئة الثقافية في الإمارات من دونه، ذلك أن الندوة استطاعت من خلال رصانة الطرح وكثافته ثم تنوعه الباهر، أن تجتذب النخب بل وتتخطاها إلى محبي المعرفة من غير المتخصصين أو المنتجين.

وبعد اتصال آخر يدعوني إلى عضوية اللجنة الثقافية، اطلعت على الأرقام والإحصاءات المبهرة، فعلمت أن مستوى الحضور هنا يفوق كافة المؤسسات، كماً ونوعاً، ولمن يشعر بالفضول أن يحل ضيفاً علينا لنطلعه كيف أن بعض المحاضرات في مدينة فوارة بالأعمال والمشاريع، استطاعت أن تتحدى اتساع الصالات وأن تملأها بمئات الزوار، وها نحن ذا نخطط لموسم ثقافي جديد ليستمر العطاء ونسهم، ولو بالقليل، في ازدهار هذا الوطن الحبيب.

 

عضو مجلس الإدارة - رئيس لجنة الجوائز والمسابقات