تتوارث الأجيال منذ البدء صفاتها الوراثية، شكلاً وسلوكاً وتصرفاً، فضلاً عن العادات الأخرى، وللأطباء المختصين قول في هذا الشأن مفاده أن المادة الوراثية تحتوي على مجموعة من الخلايا.. وكل خلية نواة تختزل كل موروثاتنا التي نرثها من الأب أو الأم، لكن المواهب الكبرى لا تورث كالشكل والسمات، فالعبقرية تهبها الحياة لأحدهم، فيكسب بها مجداً بما أنجز لهذا العالم من نتاجات مبدعة تنتفع البشرية منها..
ولعل الكثير من أبناء العباقرة اتصفوا بسماتهم الشكلية دون أن يكتسبوا شيئاً من موهبتهم وعبقريتهم، ما جعل العالم يؤمن أن الصفة الوراثية للفرد – على الأغلب – تنتقل لبنيه بكل تجلياتها، ما خلا خاصية النبوغ والموهبة، وليس ثمة شواهد كثيرة تتقاطع مع هذا الاعتقاد لانتقال الصفات الوراثية بمجملها، سوى نماذج نادرة، كنموذج الفرنسي الفنان الرسام الموهوب بيير أوجست رينوار، وابنه جان الفنان المخرج.
الموهبة بمواجهة النقد
ثمة من المواهب ما نما عبر الإصرار والمواكبة والاشتغال الدؤوب بعيدا عن رتابة التلقي الأكاديمي، مواهب نمت رغم المنغصات التي غالبا ما تحول دون اكتمال الصورة المنشودة التي يسعى العبقري المختلف لابتداعها، فهذا الرسام الانطباعي أوجست رينوار الذي لم يدرس الرسم ولا الفن في أكاديميات فرنسا الكبرى حينها، كان يعمل في مصنع خزف ويمضي بقية وقته في زيارة المتاحف الكبرى ويتابع الفنون بحب دون نصيحة من أحد، مؤثثا سماوات عينيه بالرسوم والألوان.
ومن ثم اتسعت مداركه الفنية متأثرا بفنانين كبار.. سافر في عوالم أعمالهم عبر روحه المسكونة بالعزيمة، فسار بثقة في اتجاهات فن يغير وجهة المدرسة الانطباعية نحو آفاق أخرى، وهكذا أخذ يبدع صباحا ومساء في محاولاته الكبرى التي لم ترق للنقاد الأكاديميين، وظل يعرض لوحاته الإبداعية التي لا تنتمي إلى أحد سوى إلى فكره طيلة عشر سنوات، والمحزن أن أحدا لم يلتفت إليه بسبب ما تعرض له من نقد قاس.
رينوار والموسيقى
تأثر رينوار كثيرا بشارل جونو وهو مؤلف موسيقي بارع اشتهر بتأليفه أوبرا فاوست، كان موسيقياً شديد الرومانسية، مما كان له الأثر الكبير على رسومات رينوار.. كان رينوار انطباعيا، متأثرا بتلك المدرسة الفنية الجديدة التي بزغت شمسها في القرن التاسع عشر وكان من معاصريها، المدرسة التي اتخذت اسمها من لوحة «انطباع شروق الشمس» للرسام مونيه، المؤسس الحقيقي لها، وقد قصد أوجست رينوار إلى تطوير هذه المدرسة الفنية الواقعية عبر اعتماده على نقل هذا الواقع أو الحدث الذي أمامه من الطبيعة بصورة مباشرة، كما بدا للعين المجردة.. مغامرا في بحثه عن تلك المناظر المختلفة في أعماق وأقاصي الطبيعة في فرنسا، متجها إلى ايطاليا وإسبانيا والجزائر.. وغيرها، سعيا لاقتناص المختلف من المشاهد.
البُنية الأولى
أخذ المتذوقون للفن يقتنون لوحات رينوار مقتنعين بمدى تميزه واختلافه، بعد أن أشاد النقاد بموهبته الكبيرة ومدى ما أحدثه من فرق في المدرسة الانطباعية برؤيته المختلفة، ليحتل في تاريخ الفن الحديث مكانة كبيرة بوصفه أول من وضع البنية الأساسية للمدرسة الانطباعية، كما مهد الطريق لمن بعده من كبار الفنانين مثل: سيزان. وأضفى على اشتغالاته تفاصيل فنية جديدة أخرى في القرن العشرين، ما جعلها مداعاة للتحليل بشكل أعمق وأكثر بُعداً.
كانت زوجة رينوار تتابع وأبناؤه، أفلاما سينمائية صامتة، أيام كان للأفلام الصامتة دهشتها الكبرى في العالم بأكمله بوصفها فنّاً مبتكراً، حيث كانت تقدم للناس في صالات العرض خلال بدايات القرن الفائت، وقد كان لمتابعتهم لهذه الأفلام تأثيرها على طلفهم جان الذي لم يبلغ حينها السادسة من عمره بعد، وبدا هذا التأثر واضحا عليه منذ الفيلم الأول الذي شاهده، مُحلِّقا مع تلك الصور المتحركة لأناس يتنقلون أمام عينيه، ما أسهم في اتساع أفقه وهو يراهم يبدعون في إيصال ما لديهم من حكايات من دون لغة.
العمق البصري
كانت تلك المرة الأولى التي يرافق فيها جان الصغير أخته الى السينما، وقد كان لوالدته من قبل التأثير الأكبر والأعمق في حياته، ليتجه من بعد إلى العمل السينمائي لا الرسم.. مستلهما روح الابتكار التي ورثها عن والده، فأخرج لفرنسا والعالم أهم الأفلام السينمائية الصامتة الحديثة وأحدث تغييرا لافتا في الحركة السينمائية في أوروبا وأميركا، فما قدّمه اتصف بالعمق، خاصة أثناء التحولات السينمائية الفرنسية بين عامي 1930 إلى 1950م، أي قبل الموجة الجديدة للسينما.
سلسلة لم تنقطع
كان لأفلام جان تأثير كبير على المشاهدين فضلا عن المشتغلين في حقل الإخراج، لما تميزت به أفلامه الكوميدية أو الدرامية أو السير الذاتية، من عبقرية وإبداع. إذ كانت مستمدة بمجملها من قصص وروايات مؤثرة أضفى عليها جان من رؤيته في التعبير السينمائي. توفي رينوار الأب وتوفي جان الابن، ولم تنقطع السلالة الفنية لهذه العائلة حيث بزغت مواهب أخرى لاحقة، رغم أنها لم تكن بمستوى موهبة ما كان عليه الجد رينوار وابنه.
لوحة «ملهى دوغاليت»
لوحة رسمها في العام 1876م. ولا تزال حتى اليوم معلّقة في متحف أورزيه الفرنسي، وتعد أهم لوحاته لما أحدثته من ثورة فنية، وقد لخّصت مشهدا لأصدقائه وأناس يشتركون معا في جلسات ممتعة ومناقشات واضحة حول موائد الطعام والشراب.
ولعل عبقرية هذه اللوحة تجلّت في تنقيط فرشاته بألوان مضيئة على مجمل المساحة، لتبدو مُظللة على الوجوه والأجساد التي وزّعها بشكل متساوٍ وكأنها تقبع في أسفل مظلة تدعى شجرة في الهواء الطلق، يشعر الناظر إليها وكأن الوقت وقت ظهيرة في يوم مشمس.
لوحة «غداء في قارب»
لوحة احتفالية انطباعية، رسمها في العام 1875م. يعدّها النقاد أفضل أعماله، وركز رينوار فيها على الضوء مما أكسب اللوحة الكثير من الحياة بسبب اكتظاظ الأجساد وازدحامها في قارب، كما أن الضوء الساقط على القبعات والأجساد، أوحى بوجود فتحات من الأعلى، ومدى التباين في التصرفات والحركات الجسدية المتفاعلة والمتحركة، جعل كل واحد منهم يبدو وكأن له قصة أخرى وعالما مختلف عمن سواه، حتى لكأن اللوحة رواية في كتاب.
لوحة «رقص في البلد»
التكامل صفة هذه اللوحة التي رسمها أوجست رينوار عام 1883م، والتي يقال إنها لوحة جرى تكليف رينوار برسمها، وقد أبرز فيها الانسجام في الرقص بين زوجين لم يشغلهما سقوط القبعة على الأرض، ما يفسّر وئاما وتناغما عاليا بينهما، خاصة أن المرأة بدت وهي تمسك المروحة بيمينها زاهية بابتسامتها وملابسها الدافئة الألوان في جو بهيج وسعيد، وتعمّد رينوار إكساء القبعة والمروحة والقفازات باللون الأصفر الموحي بالإشراق.
أهم أعمال رينوار الابن ( 1894 - 1979م)
فيلم «الوهم العظيم»
من أعظم أفلامه وأفضلها في مجال السينمائية العالمية، ويعدُّ من روائع السينما الفرنسية، كتب السيناريو وأنتج الفيلم وأخرجه في العام 1937م مستمداً الحكاية من رواية «الوهم العظيم»، حيث يتحدث عن أسرى الحرب العالمية الأولى والعلاقات بين الضباط، برؤية نقدية تدين هذه الحروب التي لم تعد مجدية لجميع الأطراف، بشريا واقتصاديا ونفسيا.
فيلم «قواعد اللعبة»
فيلمٌ كوميدي يصور الطبقة العليا في المجتمع الفرنسي مع خدمهم وحياتهم الباذخة، قبل الحرب العالمية الثانية، كاشفا عن القسوة والمعاناة والوقائع الصادمة، وقد منعت الحكومة الفرنسية عرض الفيلم عندما أنجزه مبدعه في العام 1939، ذلك خوفا من التأثير السلبي الذي سيتركه في نفوس الشباب، بسبب الجرأة والعمق في الطرح وتقنياته العالية والمتقدمة حينها، وقد كان هذا الفيلم مصدر إلهام لكثير من المخرجين.
فيلم «والدي»
ويحكي فيه قصة والده رينوار، الذي يعد من أهم الرسامين في العالم. صنع هذا الفيلم عام 1962م، ليحيا الحب من خلال هذا الرجل وعوالمه الفنية. وأُعد الفيلم كسيرة ذاتية..ونجح في كل عروضه بشتى أنحاء العالم، لأنه اجتهد في التعبير بصدق عن أقرب الناس إليه، بدءاً من عمل أبيه «رينوار» في مصنع الخزف وإلى وفاته، فكانت له الريادة في أن يؤرخ فناً متميزاً في عالم السينما، ونال أرفع الجوائز العالمية عنه.
87
عاش الرسام رينوار سبعة وثمانين عاماً، ورسم الكثير من الأعمال الفنية المهمة، وكان في بداية حياته على وشك تقليد الرسام الايطالي رفائيل، لكنه علم أنه على الطريق الخطأ بعد زيارته لإيطاليا ومشاهدته أعماله، ومنذ ذلك اليوم قرر تغيير أسلوبه، من المدرسة الكلاسيكية إلى الانطباعية من جديد والتي بدأ منها.
84
أربعة وثمانون عاماً عاش رينوار الابن، وأخرج خلال سنوات عمره الطويلة، الكثير من الأفلام السينمائية المؤثرة، ليطلق عليه النقاد لقب أفضل رابع مخرج سينمائي عالمي على الإطلاق.. بالإضافة إلى أنه امتهن كتابة السيناريو ومارس التمثيل والتأليف والإنتاج. عاش في فرنسا، وفيما بعد في بيفرلي هيلز بولاية كاليفورنيا الأميركية.