«إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب»، حكمة لا يزال صداها يتردد حتى اليوم، فهي لا تكاد تغيب عن ذاكرة أولئك الذين يمارسون سلوك ألإصغاء الجيد، ليرفعوها شعاراً أمام من لا يتقنون فن التوقف عن الحديث، لعدم تعودهم على خوض غمار دروب الإصغاء، الذي يعد من مهارات الإدارة ومساراتها، التي فضل الكاتب الكويتي محمد النغيمش المتخصص في الإدارة والكاتب بصحيفتي «البيان» و«الشرق الأوسط»، خوض غمارها، ليصبح في رصيده حتى الآن 3 كتب تدور جميعها بفلك فن الحوار والإصغاء، لتشكل كتبه جزءاً من سلسلة «فضيلة الإنصات المنسية».

الكاتب سلك هذا الدرب، لإيمانه بافتقار المكتبة العربية لهذه النوعية من الكتب التي تفيض بها المكتبات الأجنبية، ولإدراكه أن «الانصات» ظل زاوية مهملة بالأدبيات العربية التي يسودها ثقافة الحوار.

النغيمش في حواره مع «البيان» برهن على قاعدة أن «مجتمعاتنا تعاني من أزمة إنصات» بقوله إن «فضيلة الإنصات منسية في الوطن العربي» من خلال نتائج الدراسات والدورات التدريبية وتمارينها التي قام بها خلال السنوات الماضية، وأكد أن الموضوعية والحجج لا يحتاجان للصوت العالي. وإليكم الحوار:

لديك 3 كتب آخرها بعنوان «لا تقاطعني»، وجميعها تدور حول تعلم فن الإصغاء للآخر، فلماذا فضلت سلوك دروب هذا الفن الذي يعد من مهارات الإدارة؟

عندما قررت الكتابة في الإدارة، لم أكن أتطلع لسلوك الطرق التقليدية التي تكتب فيها مهارات الإدارة وتدرس، ومع البحث وجدت في فن الإصغاء تحدياً لي، خاصة أن مجتمعاتنا العربية تحب الحوار بطبعها، ومن خلال البحث عن الزوايا المهملة لدينا في هذا الجانب، اكتشفت أن لدى العرب باع طويل في ثقافة الحوار، وأنهم من الأمم القليلة التي كافأت مبدعيها بتعليق ما قالوا على أستار الكعبة، وهذا أمر لافت حقاً، ويثبت أن المتحدث الجيد عندهم هو الذي يؤثر فيهم ويكون محط إعجابهم، وعلى ضوء ذلك بدأت التفكير في الطرف الآخر، ألا وهو المستمع المنسي بهذه المعادلة، وحاولت معرفة مقدار المساحة الممنوحة له في أدبياتنا العربية، وبحسب ما توصلت إليه، فنحن لم نعطه حقه أبداً، وتعزز ذلك عند دخولي المكتبة العربية، حيث لم أجد مصادر عربية كافية تتحدث عن فن الإصغاء، مقارنة مع المصادر الأجنبية التي أولت هذا الجانب اهتماماً عالياً بما في ذلك الدراسات الأكاديمية، وهذه المفارقة دعتني لقبول التحدي، لأنه إن لم يكن هناك مستمع جيد، فلن يكون هناك متحدث أصلاً. وقد بين لي الصدى الذي حققته إصداراتي أن موضوع الإصغاء لمس معاناة الناس.

بناءً على اهتمام الجمهور بمضامين هذه الكتب، وبقضية الإصغاء وعدم المقاطعة، فهل يمكن القول إن الوطن العربي يعاني من أزمة انصات؟

في الواقع، الإنصات فضيلة منسية عربياً، بسبب شغفنا في التحدث. ولا شك أن بعض الإصغاء فيه مشقة، خصوصاً إذا وجد نفسه أمام متحدث يتشبث بناصية الحديث. ويمكن تشبيه المصغي بذاك الواقف بطابور الانتظار.

وفي الإصغاء لا يوجد متعة مقارنة مع متعة التحدث التي تجعله محط الأنظار. والتزام الإنسان بفضيلة الإنصات، ستعطيه الفرصة لأن يلتفت الجميع إليه حال بدء حديثه، لأن الجميع يود معرفة بما سيبوح به بعد طول صمت. وهذه من أسرار فنون الإنصات فلحظات السكوت ومتابعة مجريات التحدث تجعلك تعرف متى وكيف تعلق ولمن توجه الكلام.

بعد عام 2011 انتشرت في معظم القنوات العربية برامج «التوك شو»، فهل يمكن القول إن افتقار العالم العربي لثقافة الإنصات أدى لانتشارها، كون الجميع يريد من خلالها التعبير عما لديه، أم ماذا؟

أعتقد أن انتشار مثل هذه البرامج، عربياً، جاء على حساب الجودة، وبلا شك أنها أصبحت تعطي صورة سلبية للجمهور العربي، وانتشارها السلبي لمعاناة الإعلام العربي حالياً من الفوضى، بسبب ثورة التكنولوجيا وخروج القنوات من جلباب الإعلام الرسمي المنضبط، ما أدى إلى غياب الجودة والرقابة الخلاقة.

وما يمر به الإعلام العربي حالياً يشبه ما مر به الإعلام الأميركي سابقاً، والذي تخلص من الفوضى بالتوجه نحو التخصص، وقد لعبت جماعات الضغط ووعي الناس وبرامج قياس نسب المشاهدة دوراً في إعادته إلى سكته الصحيحة. وأعتقد أن الإعلام العربي بدأ يقترب من هذه الحالة، عبر بروز قنوات متخصصة وبرامج تهتم بمستوى الجودة.

برز لدينا في إحدى فترات الإعلام العربي، برامج حوارية كثيرة، تحولت إلى ساحات لمعارك كلامية، ضاع معها المشاهد، إلى أي حد لعبت ثقافة الحوار وانتشار الصراخ في البرامج، دورا في اقلاع الجمهور العربي عن هذه البرامج؟

الموضوعية والحجج لا تحتاج للصوت العالي، وهي قادرة على خلق محاور جيد يركز على الحقائق، وتجعل منه مؤثر في المجتمع، من خلال نبرة الصوت الهادئة، والصراخ دليل ضعف الحجة، وفي البرامج التلفزيونية العربية، رأينا حوارات تنتهي بمشاجرات، بسبب ضعف الحجة الذي يظهر حينما يستنفد من خلالها المتحدث كافة أدلته. وإذا أردنا الحصول على برامج حوارية هادئة فهناك وسائل منها أن يكون المتحدث قارئ جيد، وأن يكون مستعداً ويعرف خصمه، وأن يكون قادراً على ترتيب أفكاره، والقراءة لا تعمل على تثقيف الإنسان وحسب، وإنما تعينه أيضاً على موازنة الأمور ورؤيتها بطريقة أشمل، فلا يغرق بالتفاصيل التي يجره إليها خصمه لأنه يرى الصورة الكلية بحكم شمولية اطلاعه وارتفاع وعيه وإدراكه.

في الأدبيات العربية، قيل إنه إذا أردت أن تكون متحدثاً جيداً، فعليك أن تكون منصتاً جيداً، وبناءً على ذلك كيف يمكن تحسين هذا السلوك لدى أفراد المجتمع العربي، الذي يعاني أصلاً من أزمة إصغاء،

في ذلك هناك العديد من المعايير، ومن بينها، أنه إذا أراد أي شخص أن يكون منصتاً جيداً، فعليه أن يتحدث أقل من الطرف الآخر، وأن يدرك أنه عندما يتحدث فلن يتعلم شيئاً جديداً، مقارنة مع ما سيتعلمه عندما يكون مصغياً للآخر، لأن عملية الإصغاء هي إعادة تعبئة للذهن، وعكس ذلك لحظات التحدث التي يقوم من خلالها الشخص بتفريغ ما في جعبته. وعلينا أن ندرك أن الكثير من المعتقدات التي نعتنقها، ليست بالضرورة صحيحة، فهي قد تتغير جذرياً عند الاستماع للآخر، وبالتالي تصحيحها.

وليكون الإنسان مستمعاً جيداً، لا بد أن يكون لديه قناعة بأن الإصغاء ليس ضعفاً، وإنما هو ذروة الأدب في الحوار. ولتعلم سلوك الإصغاء فهو أمر سهل ويحتاج لقليل من الصبر، فكلما مارس الإنسان هذا السلوك وتصنعه يصبح مكتسباً مع مرور الوقت، ويتحول إلى سلوك طبيعي، وعلينا أن ندرك أن الدقائق الأولى هي ملك للمتحدث، ولا يجب مقاطعته فيها أبداً حتى إن كان ذلك على سبيل التوضيح، لأن الإنسان خلالها يعبر فيها عن نفسه ورأيه، ومقاطعته هنا تكون مزعجة له كثيراً.

ومن الأمور المهمة أيضاً مراعاة سرعة وفهم المستمع، لأن الدراسات أثبتت أن سرعة تفكير الإنسان تفوق قدرته على الحديث بخمسة أضعاف تقريباً، وبالتالي فسرعة الحديث يجب أن تكون متوازنة، وأن يكون المتحدث دائماً مباشراً في حديثه.

في إحدى الدراسات التي أجريتها مع رئيس قسم الإعلام في جامعة الكويت، توصلت إلى أن 25% من مذيعي الفضائيات العربية يقاطعون ضيوفهم، فإلى أي حد يمكن لهذه المقاطعة أن تؤثر على الضيف والمشاهد معاً، وهل يمكن أن تخلق فجوة بين المشاهد والبرنامج؟

هذه الدراسة أجريتها على البرامج الحوارية عن آداب الحوار والمقاطعة، وبناءً على نتائجها، قمت بإصدارها في كتاب «لا تقاطعني»، وبلا شك إن هذه النسبة تعتبر عالية، لاسيما أننا نتحدث عن شريحة مدربة على هذا العمل. وعلى أي شخص أن يدرك أنه عندما يقوم بمقاطعة حديث غيره من دون مبرر، فهو يساهم في قطع حبل أفكاره. والمفارقة أنه في دراستي العلمية الثانية مجلس الأمة في الكويت وجدت أرقاماً مثيرة للاهتمام منها أن الوزراء أكثر تأدباً والتزام بآداب الحوار من النواب، وأن تحت قبة البرلمان تتم مقاطعة الشخص المتحدث بصورة لافتة في أحيان كثيرة في أول دقيقتين من بدء المتحدث كلامه.

بشكل عام، المقاطعة ليست كلها سلبية، وأحياناً تكون مبررة عندما يكون الضيف قد استنفد فرصته بالحديث، ولم يعد يعطينا ما هو جديد، وأحياناً نحتاج إليها عندما يكون هناك إساءة بدنية أو لفظية، وتقبل المقاطعة بحالة إذا كانت للتوضيح أو تصحيح معلومة يبنى عليها الحوار بالكامل بحيث لا يأخذ منحى آخر.

«لا تقاطعني»

يعد هذا الكتاب الأول من نوعه في الوطن العربي، من ناحية تناوله لسلوك مقاطعة المتحدثين وتقديم حلول عملية للتعامل مع هذه المشكلة التي أصبحت منتشرة بكثرة في أحاديثنا اليومية وعلى الفضائيات. وتناول المؤلف في كتابه الصادر عام 2009 عن دار اقرأ للنشر والتوزيع، دراستين علميتين أنجزهما بالتعاون مع رئيس قسم الإعلام بجامعة الكويت.

«المرأة تحب المنصتين»

الكتاب الصادر عن دار اقرأ للنشر والتوزيع عام 2008 هو محاولة تساعد المرأة والرجل على أن يفهم كل منهما الآخر، من خلال استخدام مهارة الإنصات الفعال في حياتنا وخصوصاً حينما يتعلق الأمر بالإنصات للنساء، ويستعرض الكاتب فيه أهمية لإنصات في حياة المرأة، ويقدم معالجة للعلاقة ما بين المعروف عن ثرثرة المرأة ورغبتها في من ينصت إلى حديثها.

«أنصت يحبك الناس»

يعرف الكتاب الصادر في 2004 الإنصات والاستماع والفرق بينهما من حيث التركيز والتفاعل الذهني والجسدي مع مصدر الحديث، ثم يعدد أنواع الإنصات وهي الإنصات السلبي والمصطنع والانتقائي والفعلي وإنصات الشرود الذهني، وفيه يعرج المؤلف إلى تبيان أهمية الإنصات كمهارة لغوية تسبق في أهميتها التحدث والقراءة والكتابة، وتكمن أهمية الإنصات أيضاً في كونه عنصراً ضرورياً للنجاح في أي مكان.​