لا يمكن الحديث عن الصقر في التراث بوصفه طائراً جارحاً تمارس من خلاله هواية الصيد فقط، فالصقر في الحياة الإماراتية يشكل رمزاً للهوية الوطنية والعزة، ويكشف تاريخاً طويلاً مع الصحراء طابعه الأنفة، حيث يمكن لزائر الدولة الوقوف عند الكثير من العلامات والصيغ التي يظهر فيها الصقر، فهو يظهر على الأوراق النقدية، وفي رموز الكثير من العلامات التجارية، وعلى الطوابع البريدية، وفي شعار الكثير من المؤسسات الرسمية والأهلية، وحتى على قمصان الشباب وقبعاتهم.
لذلك يمثل الحديث عن الصقر حديثاً عن تاريخ الثقافة الإماراتية العائدة في جذورها إلى الثقافة العربية، فالصقر الذي عرفته العرب قبل مئات السنين صار رمزاً للعزة والصبر والشجاعة، وتكرس في الثقافة الإماراتية حتى بات رمزاً للدولة، وكأن الإماراتيين وجدوا في صفاته ما يمثلهم، وما يرسم صورة العربي الأصيل الذي يتحلى بالصبر والأنفة. فما تاريخ الصقر في الثقافة العربية؟ وكيف روّض العرب الأوائل هذا الطائر حاد الطباع حتى بات معينهم على حياة الصحراء وصيادهم الماهر؟ وما سيرة الصقر في الحياة الإماراتية؟ وهل لهذا الصقر تجليات في الأدب، وفي الشعر، والفن الإماراتي؟ وكيف يمكن قراءة التراث من خلال هذا الطائر؟
سيرة تاريخية
يعود تاريخ ترويض الصقر وفق عدد من المؤرخين، إلى الحارث بن معاوية، إذ تروي الحكاية أن الحارث بن معاوية بن ثور بن كندة أحد ملوك العرب وجد الشاعر الجاهلي امرؤ القيس هو أول من روض الصقر واستخدمه في الصيد؛ وقصة الحارث مع الصقر أنه وقف ذات يوم عند صياد ينصب شبكة للعصافير، فانقض صقر على عصفور علق في الشبكة وأخذ يأكله، وما لبث أن علق جناحا الصقر بالشبكة، فأمر به الحارث فحُمِل إليه، ووضعه في بيت، وأوكل له من يطعمه ويرعاه، وكان يحمله على يده، وذات يوم وهو سائر به رأى الصقر حمامة فطار عن يد صاحبه إليها، وأخذها وأكلها، ثم عاد إلى صاحبه، فأمر الحارث عند ذلك بالعمل على فهم طبيعة الصقور، وكيفية تدريبها وتهذيبها، لتستخدم في الصيد، فعرف العرب رياضة القنص بالصقور، وعشقوها، ونشروها في منطقة الجزيرة العربية.
منذ ذلك التاريخ دخل الصقر في حياة العرب وصار سبيلهم إلى الصيد، فتطورت رياضة الصيد، وتنوعت أنواع الصقور، وأشكال تدريبها، حتى باتت مجالاً للبحث لدى علماء ومفكري الدولة الإسلامية، فكتب في ذلك العديد من المؤلفات منها، كتاب «المصائد والمطارد» لكاتبه المعروف بـ «كشاجم» الذي ألف هذا الكتاب في القرن العاشر (توفي عام 961 أو 971)، وكتاب «البيزرة» الذي ألفه بازيار العزيز الفاطمي، وكتاب «الحيوان» للجاحظ الذي يعد موسوعة عن علوم الحيوان والطير، وكتاب «أنس الملا في وحش الفلا» الذي ألّفه ابن المنكلي في العام 1371، وكتاب «الكافي في البيزرة» لمؤلفه عبدالرحمن بن محمد البلوي، وغيرها العديد من المؤلفات والموسوعات.
علاقة وثيقة
ليس ذلك وحسب، فقد صار الصقر يأخذ مكانه في بناء الدولة الإسلامية، وصارت تخصص له الميزانية المالية من بيت المال، للعناية به، وتعليمه، وترويضه، إذ يكشف ابن خلدون في مقدمته أن الخليفة المتوكل، والمعتضد كانا مولعين بالصيد، فكان المعتضد ينفق سبعين ديناراً لأصحاب الصيد من البازيايين - الصائدين بالصقور - والفهادين والكلابين،
لذلك ارتبط تاريخ الصقر بالثقافة العربية ارتباطاً وثيقاً، فالعائد إلى تاريخ الخليج العربي منذ الدولة الإسلامية حتى اليوم يجد علاقة وثيقة ارتبط فيه المجتمع مع الصقر، وشكل الصيد حرفة العيش لديهم، وهذا ما عرفته الكثير من الثقافات الجبلية والصحراوية، سواء في الشرق الآسوي، أو في الشمال الإفريقي، فيقول المستشرق الألماني بيتر سمرفيلد في كتابه «العرب حضارة وتاريخ» - الفصل الثالث-: «ليس هناك من بين أمم وشعوب العالم من هم أبدع من العرب في الصيد والقنص، وإن رياضة الصيد والقنص بالطيور خاصة تعد من أجمل ضروب الرياضة وأحلاها وأكثـرها التصـاقا بحياة العرب».
في الأدب والفن
ويعد الصقر في الثقافة الإماراتية اليوم امتداداً لما عرفته الثقافة العربية طوال تاريخها، فمنطقة الخليج العربي وفق كثير من المؤرخين تعد مركز الثقافة العربية الصحراوية، سواء على صعيد ثقافة العيش، أو المكان الجغرافي.
يؤكد ذلك التاريخ، صورة الصقر في الثقافة الإماراتية اليوم، فهو لم يأخذ حضوره على صعيد رياضة الصيد، وحسب، بل فرض حضوره على الأدب والفن الإماراتي، فشكل واحداً من الملامح التي اشتغل عليها الشعراء، بوصفه رمزاً عربياً متجذراً للخصال الحميدة، كالشجاعة، والعزة، والوفاء، والقوة، وغيرها من الصفات، إذ على صعيد الفنون البصرية يمكن تلمس ذلك في عدد من التجارب التشكيلية التي تنتمي للمدرسة الواقعية في الرسم، فمثلاً قدمت الفنانة أمل الغصين خلال تجربتها في الرسم بالتنقيط العديد من الأعمال الفنية التي تجسد الصقر، وتتلمس جماليات تكوينه، كما قدمت المصورة الفوتوغرافية خولة الفلاسي معرضاً متكاملاً في صورة الصقر استضافه غاليري أجياد تحت عنوان «التحليق عالياً..مصدر فخر واعتزاز».
هوية بصرية
وظلت صورة الصقر تأخذ تحولاتها ورمزيتها في المجتمع الإماراتي حتى باتت صورة على العملة النقدية، وشعاراً للعديد من مؤسسات الدولة، وعلامة للكثير من المنتجات التجارية، وكأن الصقر بذلك صار هوية البلد بأكملها، وحمّال الخصال التي يتحلى بها أهله.
قصيد
تغنى بالصقر الكثير من الشعراء ورسموا صوراً لجماليات شكله، ومن ضمنهم المغفور له بإذن الله، القائد المؤسس، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في قصيدة له بعنوان «يا طير»:
يا طير وضبتك بتدريب
ابغي اصاوع بك هدادي
لي طارن الربد المهاريب
لي ذايرات من العوادي
القف لهن عساك ما تخيب
واقصد لقايدهن عنادي
خِمّه براسه خَمّة الذيب
وعليك ماظنيه بادي
خل الهبوب تروح وتييب
ريش شعيع عقب المصادي
واللي سبق طيره بلا طيب
يتم في حزمه ينادي
عند اخويانا والاصاحيب
كلّ بخبره بايسادي
لي ماضوى ودو له الجيب
بزهاب والطبخة عنادي