استند التشكيل الإماراتي طول مسيرته الممتدة على أربعة عقود ماضية إلى التراث الإماراتي بوصفه خزاناً ثقافياً جمالياً غنياً، يمكن من خلاله الوقوف عند المكان الإماراتي، وتاريخه، وإنتاج علاقات جمالية بين التراث بكل محمولاته واللوحة الفنية بما تقدمه من عناصر لونية وتكوينية، حيث صار التراث المعماري، والحكايات الشعبية، والمطرزات، وزخارف الأثواب، والبيوت القديمة عناصر واضحة في العمل التشكيلي الإماراتي.
ولم يتشكل ذلك في إطار البحث عن عناصر جمالية لإنتاج لوحات تشكيلية بقدر ما كان ظاهراً بوصفه هوية وطنية يمكن من خلالها الوقوف عند العمل الفني التشكيلي الإماراتي والرجوع إلى جذوره وهويته المستندة إلى المكان وتاريخيه، فاشتغل كوكبة من الفنانين الإماراتيين في تجاربهم الفنية على تلك العناصر، وأنتجوا منها أعمالاً فنية تتوقف عند التاريخ الجمالي للمنطقة.
أثر التراث
يمكن قراءة أثر التراث الإماراتي في النتاج الفني الإماراتي بمستويات متعددة، فمنها ما ظهر على صعيد الشكل والتكوين، خاصة في التجارب الفنية التي تنتمي إلى المدرسة الواقعية، ومنها ما ظهر في معالجة النص الشفهي ومحاولة تجسيده بصرياً بصيغ تعبيرية وتجريدية تتفاوت بتنوع تجارب الفنانين، إضافة إلى الاشتغال الذي ظهر على العناصر الدقيقة في التراث الإماراتي، مثل الأشكال الهندسية في الزخارف، وبعض المهن التي عرفها الأجداد، وغيرها من العناصر الغنية.
يعود ذلك الاشتغال على التراث إلى واحدة من العلامات اللافتة في تاريخ الإبداع الإماراتي بصورة عامة، إذ مع تشكل دولة الاتحاد، والخروج من الحياة الريفية والبدوية القائمة على الصيد وتجارة اللؤلؤ إلى حياة جديدة معاصرة، وجد الفنانون أنفسهم أمام جمالية تاريخية لا يمكن المرور من دون التوقف عندها، فصار التراث هو الشكل الجمالي الراسخ في ذاكرتهم، خاصة وأن رواد التشكيل الإماراتي من الأجيال التي عاشت طفولتها في مرحلة ما قبل الاتحاد أو في بداية تشكل معالم الحياة المعاصرة.
روح الأجداد
لذلك يعد الرجوع إلى التراث الإماراتي في العمل التشكيلي الإماراتي حالة من الحنين، ومحاولة لاستحضار روح الأجداد وتوثيق مسيرتهم جمالياً، فلا تكاد تخلو تجربة فنية من التشكيليين الإماراتيين من وقفة واشتغال على عنصر من عناصر التراث الإماراتي بكل أشكاله.
تؤكد ذلك العديد من النماذج اللافتة في الحركة التشكيلية المحلية، فالفنان التشكيلي – شيخ الفنانين الإماراتيين- عبد القادر الريس، اشتغل طويلاً على المكان الإماراتي بكل محمولاته الطبيعية والمعمارية، فرسم البيوت التراثية القديمة، بما تشتمل عليه من نوافذ وأبواب وأنماط هندسية مميزة، ورسم المكان الطبيعي بجباله ووديانه، وأشجاره، فصارت أعماله أشبه بوثيقة جمالية حيّة على التراث المادي الإماراتي، وصارت عناصر التراث الإماراتي هوية بصرية لأعماله، فاليوم لا يمكن المرور على عمل لعبد القادر الريس من دون معرفته، ومن دون تلمس روح الحياة الإماراتية القديمة فيه.
جمال وتراث
ليس ذلك وحسب فالعائد إلى أعمال الريس لا يجد المكان الإماراتي بصيغته الجامدة، وإنما يكشف عن علاقة وثيقة بين الشكل الجمالي واللون المستخدم في اللوحة والمكان التراثي الواقعي القديم، إذ ظل الريّس في مجمل تجربته يستحضر العناصر الحيّة التي تنكشف من خلالها حركة المجتمع وصورة تفاعله، فلا يرسم البيوت من دون أشجارها، ولا يرسم الجبال من دون حركة البحر وأشرعة السفن وحركة الموانئ، فكأنه رغم انزياحه عن رسم الإنسان يوثق حركته وأثره في الحياة الإماراتية.
مقابل ذلك الاشتغال على المكان وحركة المجتمع فيه، تظهر تجربة الفنان عبد الرحيم سالم الذي اختار واحدا من عناصر التراث الإماراتي الأكثر غنى وتنوعاً، إذ لجأ إلى التراث الشفهي الشعبي، وراح يتوقف عند حكاية شعبية عرفتها إمارة الشارقة في سبعينات القرن الماضي، تروي قصة فتاة جميلة، أغرم بها شاب لكنها صدته، فعمل لها سحراً جعلها تهيم في الشوارع وتتحول من الفتاة الفاتنة إلى المشردة الشعثاء، وتدعى الفتاة وفق الرواية الشعبية «مهيرة».
أنتج سالم من حكاية مهيرة سيرة بصرية تعبيرية كبيرة في أعماله، إذ اشتغل على تجسد حكايتها في سلسلة تجاربه الفنية، فتحولت من حكاية المرأة المرسومة بتعبيرية عالية، إلى رمز لكل نساء الأرض، وصارت هي اختزالاً لفكرة المرأة في أعماله.
النص الشفهي
واستطاع سالم من خلال اشتغاله في النص الشفهي الشعبي على نقل الحكاية من شكلها الموروث بصيغة شفهية مروية إلى عمل فني تشكيلي، وما زالت حتى اليوم هي صلب تجربته وأساس بناء العمل الفني لديه على الرغم من تحولها وتبدلها من شكل المرأة التعبيري إلى رموز وأشكال تشير إليها.
وعلى الرغم من أن حكاية مهيرة كان يمكن أن تظل غائبة عن حكاية اللوحة في تجربة سالم إلا انه ظل مصراً على ذكرها والتأكيد عليها بوصفها مرجعية جمالية عاد إليه لإنتاج تجربته، مشيراً بذلك إلى الارتباط الوثيق بن اللوحة التشكيلية في الساحة الإماراتية والتراث المحلي.
صورة المرأة
الأمر ذاته يمكن تلمسه عند الحديث عن تجربة الفنانة د. نجاة مكي، فالمتابع لأعمالها يجد أن اشتغالها تمحور حول صورة المرأة وقدرتها على اختزال الحضور الإنساني، والإجابة على تساؤلات الوجود التي تطرحها في أعمالها، لذلك ظهر أثر التراث الإماراتي في تجربة مكي من خلال اشتغالها على تطريز الأثواب، والزخارف الهندسية في البيت الإماراتي.
تعود مكي في تجربتها واشتغالها على صورة المرأة إلى أشكال الزخارف التي عرفها البيت الإماراتي القديم، حيث كانت البيوت تزيّن بمثلثات ومنحنيات ترسم على طول الجدران وحول الأبواب، حيث ظلت الأبواب العنصر الجمالي المميز الذي يكشف هوية البيت الإماراتي، من خلال أشكاله الزخرفية النباتية والهندسية المميزة.
عناصر جمالية
عملت مكي على تلك العناصر الجمالية واستطاعت توظيفها من خلال اشتغالها على تكرار الشكل الهندسي الدقيق، وتحقيق حضوره إلى جانب الشكل الأنثوي في أعمالها، فظهر هذا في أعمالها الفنية التعبيرية والتجريدية، حيث جاءت أعمالها التجريدية مستندة إلى الشكل الزخرفي المأخوذ من عناصر البيت التراثي الإماراتي القديم، وما يشتمل عليه من زخارف.
ليس ذلك وحسب فهي تستند إلى تطريز الأثواب التقليدي الذي عرفته المرأة الإماراتية، خاصة ذلك الذي يكون على أكمام الأثواب، وما يعرف في الثقافة الشعبية بصناعة «التلي»، فأعمالها قائمة على الخطوط والمستويات اللونية المتشكلة أفقياً وعرضياً التي تشبه في بنائها نسيج التلي على الثوب التقليدي النسوي.