«الهاجس»: هو الخاطر، وما ورد فيه من ترداد، و«الرَّجْس»، هو الصوت الشّديد، و«التوثيق»، هو مصدر وثَّقَ، وهو: ترتيب واختصار وتدوين مادّة مطبوعة كمرجع. وفَنّ التوثيق هو تسجيل المعلومات حسب طُرُق عِلْميّة متّفق عليها.

والتوثيق هو علم من علوم التاريخ لحفظ المعلومات وتنسيقها وتبويبها وترتيبها وإعدادها لجعلها مادّة أوليّة للبحث والفائدة. وهو علم مهم لحفظ النتاج الإبداعي الإنساني. وهو حفظ الأحداث التّاريخيّة والمعلومات العلميّة ونقلها مِن الماضي إلى الحاضر ثمّ إلى المستقبل وإلى الأشخاص الذين يمكنهم الاستفادة منها، وينطبق هذا على التناقل الشفهي للمعلومات والمعارف والمهارات. أو هو علم التّحكّم في المعلومات التي يمكن أن تتضمّن الوثيقة والكتاب والصّورة والتّسجيلات الصّوتيّة والفيديويّة والنّصوص الإلكترونيّة والعمليات الفنّيّة التّقليديّة، كالتّجميع والاختزان والفهرسة والتّصنيف. والتّوثيق: هو تثبيت نسبة النّصّ إلى صاحبه بالأدلّة المرجّحة أو القاطعة، مِن أسانيد ودلائل وأقوال متضافرة أو متواترة. بحيث يتمكّن القارئ من تتبّع المادّة العلميّة، ومعرفة من أيّ مصدر استقاها الكاتب.

اهتمام ورعاية

منذ البدايات الأولى لنشوء اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة، برز الاهتمام بتراث الإمارات، وتوثيقه، واتضح ذلك في كلمات وأفعال المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.. وقد قال رحمه الله: «كان اهتمام الدّولة كبيراً بنشر الثّقافة وإحياء التّراث القديم والحفاظ عليه» (2 مارس 1977).

وأيضاً، لا ننسى مقولة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، والتي كان قد قالها سموه في 2 ديسمبر 1979: «اعتمدتْ مسيرتنا الاتحادية في البداية ولاتزال، على إرادة شعبنا الذي يستلهم أصالة التّراث والتّاريخ..». وتتضح مسائل إحياء التراث الوطني كذلك في اهتمامات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدّولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، بالموروث الشّعبي المحلّيّ، على اعتبار أنه جزء أساسي من ثقافة المجتمع. ويتبدى ذلك أيضاً في توجيهات ودعم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة. كما يتجلّى هذا التوجه في حرص سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، وليّ عهد دبي، على مسائل التّراث على اعتبار أنّه مصدر مهم لقوة المجتمع وتعاضده، ورافد رئيسي للهوية الوطنية، وتأكيد سموه أن التراث مسار اجتماعيّ وثقافيّ مهمّ وأصيل. ذلك إلى جانب إنجازات سموّه الكثيرة في ميدان التراث الوطني غاية الإعلاء من شأنه.

أسباب

ومن المؤكد أن هذه الأصالة هي التي دفعتنا إلى توثيق التراث، لأنّه أمر لا غنى عنه، لأغراض تحديد الهُوية، والحماية والتفسير والحفاظ على المكوّنات المادية المنقولة والمباني التاريخية والمواقع الآثارية، والمظاهر الطبيعية والثقافية. وهي بالتالي تحتلّ مكانة مهمّة في جميع الاتفاقات الدولية الرئيسة المتعلقة بحماية التراث الذي يمتلك بدوره آلية دفاعية تجعله قادراً على استنفار الشعوب وحشد طاقاتها وتأمين تكاتفها. كما أنّ بعض التغيّرات الحاصلة أملت الحاجة الملحّة إلى تحديد المفاهيم بصورة واضحة، وضرورة الاستعجال في جمع عناصر التراث.. وإيجاد تنسيق بين المؤسّسات العاملة في مجال التراث. ومع ضرورة التزام الدراسات المهتمّة بالتراث بالتّوثيق العلمي.

مهمات وتساؤلات

إنّ توثيق التراث ليس مجرّد احتفال يقام، أو نشاط يؤدّى، أو عمل ينفّذ، أو كتاب يُنشر، أو منهج يطبّق بل كل ذلك، وهو ما لخّصه حمد بوشهاب، رحمة الله عليه، وهو ما عناه الدكتور محمد الفارس بقوله: «إنّ ملفّ التّراث الشّعبي مملوء بالهموم والمهمّات والطّموحات والإخفاقات. وهو يثير الكثير من التّساؤلات حول هموم واهتمامات العاملين في حقله المتنوّع. ومن هنا علينا توثيق التراث، كما أشرنا إليه سابقاً».

ومن الأمور اللافتة للنّظر أنّ عدداً من المؤسّسات والإدارات استعملت كثيراً كلمة: «توثيق» في مسائل التراث فها هي وزارة الثقافة وتنمية المعرفة تبنّت بالتعاون مع منظمة اليونيسكو مشروع توثيق وتصوير وأرشفة التراث الإماراتي بأسلوب علمي. كما أنّ مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث وضع ضمن الأهداف الاستراتيجية للمركز، توثيق التراث وحمايته والعناية به.

وفي كتابه «تاريخ التّعليم التقليدي في مدينة عجمان» يقول الباحث علي المطروشي، إنّ مِن أهداف تأليف هذا الكتاب هو: توثيق تاريخ التعليم التقليدي في مدينة عجمان بمؤسّساته ومعلّميه. وسابقاً، نظّم مركز زايد للتراث والتاريخ مؤتمراً بعنوان: «مناهج توثيق التّراث الشّعبي» في العام 2000. وكان من محاوره: «تأصيل مناهج الجمع والتّوثيق في مجال التّراث الشّعبي». وفي الفترة من: 29 مارس وإلى 1 أبريل عام 2010 نظّمتْ هيئة أبوظبي للسّياحة والثّقافة، مؤتمر التّراث والتّعليم: رؤية مستقبليّة (الاستراتيجيّات والمناهج وأساليب الترويج). إذ صدرت نقاشاته ومجرياته في كتاب عام 2013. وهو ما يعني أنّ ذلك كان ضمن استراتيجية عامّة لتوثيق التراث. كما أشار الباحث عبدالعزيز المسلّم في محاضرة له بعنوان: «بين الأصالة والمعاصرة – توظيف التراث في تعميق الانتماء الثقافي»، إلى اهتمام الحكومات في الخليج العربي بإنشاء الإدارات المعنيّة بحفظ التراث وتوثيقه. ولا بد من التنويه هنا بجهود مجموعة هيئات متخصصة في المجال، على رأسها: نادي تراث الإمارات في أبوظبي، جمعيّة التّراث العمراني، الأرشيف الوطني في أبوظبي، معهد الشارقة للتراث، هيئة الشّارقة للوثائق والبحوث، مركز الدراسات والوثائق في رأس الخيمة.

هدف

يعد الكشف عن آثار الحضارات القديمة في إمارة أبوظبي من ضمن مهام هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة لتوثيق وضمان الحفاظ على المباني التاريخية. وتعمل الهيئة على توفير الحماية للتراث المادي في إمارة أبوظبي والحفاظ عليه، إضافة إلى جمع وحفظ وحماية وتوثيق ودراسة التراث غير المادي. كما نظّم المجلس الوطني للسّياحة والآثار، سابقاً، بالتّعاون مع دائرة الثّقافة والإعلام في عجمان، ورشة: «توثيق وتسجيل القطع الآثاريّة بمتحف عجمان» التي توثّق 60 قطعة آثاريّة في المتحف، ذلك في 19 ديسمبر 2010.. وصاحبتْها جلسات عمل تدريبية للعاملين بالمتحف من أجل رفع وتطوير كفاءاتهم وتدريبهم على التوثيق الآثاري بالشكل العلمي الصحيح. ولمّا صدر مرسوم تشكيل «اللجنة العليا لِتراث وتاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة» نصّ على أنّ مهمّتها: صيانة تراث الدّولة ورصد تاريخها من مصادره الأصليّة ودراسته والعمل على نشره. وفيه، أنه على اللجنة الاستعانة بأبناء البلاد الملمّين بتاريخها. (31 مارس 1976). إذاً، فإنّ توثيق التراث هو من أكبر المسائل التي نادى بها قادة الدولة الكرام، وعمل على تنفيذها أو على الأقلّ المساهمة فيها العديد من المراكز والإدارات والهيئات والوزارات على مستوى الدولة، ولكن لِمَ لانزال بحاجة إلى مشاهدة وقائع توثيقيّة أكثر وأوضح تؤكّد بواقع عمليّ حقيقة كلّ هذه المناداة ووجوب رسوخ تلك الاهتمامات؟ إن تراثنا متنوّع المشارب، ومتعدّد الميادين، ومختلف الجوانب يتطلّب مزيداً من الاهتمام العملي به، وتوظيف عناصره بما يخدم الخطّة الوطنيّة المتكاملة للدولة.

تصويب

ولكن يتطلّب ذلك الحذر من النّظرة التي تحسب ما ليس بتراث تراثاً، تلك النّظرة التي أوجدتْ حماساً مفرطاً للتراث، أثّر إيجاباً وسلباً في مفهوم التراث الشّعبي. فأدّت بالتالي إلى وجود نظرة واسعة للتراث، تتعامل بشكل فضفاض مع بعض مجالات التراث وعناصره، وتتعامل مع التراث من غير امتلاك المعرفة العلميّة أو النّظرة الثّاقبة للتعامل معه في إطاره الاجتماعي والتاريخي.

ومن هنا، وجب مراجعة كلّ ما كُتب حول تراث الإمارات، ونقده نقداً بنّاءً يتمّ من خلاله توجيه الكتّاب، وإرشادهم إلى الأسلوب العلمي في التوثيق. والابتعاد عن التنظير الذي لا ينتج عملاً علميّاً صحيحاً، وهذا ما عناه الأديب حبيب الصايغ رئيس مجلس إدارة اتّحاد كتّاب وأدباء الإمارات حين قال: «كفانا تنظيراً وعلينا أن نتّخذ خطوات فعليّة على أرض الواقع». وقد ذكر الدكتور فالح حنظل أن المأثورات الأخرى، مِثل الأمثال والحكايات والخراريف والأقوال والسِّيَر الشّعبيّة، فإنّ جمعها وكتابتها يعتبران صناعة تتطلّب تدريباً ومقدرة في الجمع والشرح والتبويب. ولاتزال هناك فراغات في الثقافة الشّعبيّة لم تدرس بعد. ومن هنا تأتي ضرورة الأخذ بعين الاعتبار ما أورده الدكتور فالح. وهذا ما أشار إليه الدكتور يوسف الحسن حين يقول: «إنّ الكثير من التراث الوطني لم يسجّل بعد، وبالتالي فإنّ هناك ضرورة لإدخاله في اهتماماتنا الثّقافيّة. وفرز الأصيل من الدّخيل فيه. وبعْث الحياة والحركة فيه بالتّجديد والرّبط بالعصر وبما يخدم الخطّة الثّقافيّة المستقبليّة ويؤصّلها».

وبناء عليه، يجب الالتفات إلى المبادرات القيمة السابقة وإبراز نتائجها، ويجب جمعها من الجهات المختلفة التي توزّعت عليها لحصرها وتصنيفها وترميم ما أصابه التلف منها.

لجنة

لا بد من تشكيل جهة أو لجنة وطنية عليا تتضمن كفاءات وطنيّة لها جهود في توثيق التراث المحلّي للدولة، وتسجيله وحفظه. وتمنح هذه اللجنة صلاحية مخاطبة الجهات الأخرى. ويتولى فريق من الخبراء والمختصين فرز وتصنيف هذه المواد، وحصر ما أنجز في مختلف المجالات، وتحديد نواحي القصور والنقص، والمجالات التي نحتاج إلى توثيقها، ليجري توجيه العمل نحو وباتجاه سدّ هذا النّقص.

ليس ترفاً

أكد الشاعر والباحث الراحل حمد خليفة بوشهاب، وجوب أن نُعنى في اهتمامنا بالتراث المحلي ودرسه وتوثيقه، بالتعامل والتعاطي في صيغة منهجية. ومما قاله: «إنّ التراث ليس تمثيليّة، نلهو بها ونتسلّى، وإنّما ندرسه فنتناول إيجابياته ونفاخر بأمجاده. إنّه أعمال شاقّة وأفعال جادّة يؤدّيها رجال كانوا شعلة متّقدة لا تخبو من سموّ ونشاط وعلوّ همّة، كما أنّه ليس ترفاً يمليه عصر النّفط، وإنّما هو طاقة لِشحذ الهمم ودفع الشّباب إلى العمل الجادّ، ملخِّصاً تاريخ الأجداد في أنّهم: (وُلدوا ضعفاء، وعاشوا حكماء، ثمّ ماتوا كرماء)».

أصالة وإحياء

قال المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في 2 ديسمبر 1976: «لقد ترك لنا الأسلاف مِن أجدادنا الكثير مِن التّراث الشّعبي الذي يحقّ لنا أن نفخر به ونحافظ عليه ونطوّره ليبقى رمزاً لهذا الوطن والأجيال المقبلة. إن تراثنا الشّعبي إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على القيم الأصيلة والنّبيلة التي يتّصف بها شعبنا منذ القدم، ومن هنا تجيء أهمّيّة إحياء هذا التّراث العظيم. وقد وجدتُ إقبالاً شديداً على الحفاظ على التّراث الذي ورثناه عن أجدادنا».

صفحة متخصصة بالتراث والبحث في مفردات المكان تصدر كل خميس