من رماد هزيمة الاستفتاء وأنقاض الإذلال المحرج، خرج رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إلى العلن، ليعلن على وقع هتافات انتصار خصومه التي لا تبعد سوى مئات الياردات تسليم دفة القيادة لخلف أكثر استحقاقاً. وحده فستان سامنتا سيدة «10 داوننغ ستريت» المزركش كان فرحاً باللحظة التي بدت ثقيلة على زوج أوشك على البكاء عدة مرات، لاسيما تحت رشقات انتقادات الناخبين وسخريتهم من سياساته الاستسلامية.
وأفادت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية، في تقرير نشر أخيراً، أنه منذ لحظة خروج كاميرون ممسكاً بيد زوجته سامنتا من بوابة المقر الوزاري في 10 داوننغ، كان الجميع يعلم أنه سيقوم بالوثبة الأخيرة. لم تكن اللحظة منوطة بالدولة وأحوالها، بل جاءت بالنسبة للثنائي مثقلةً بالمشاعر والأحاسيس والتهور، وهي لحظة قررت فيها سامنتا الوقوف بجانب زوجها بكامل أناقتها وعنفوانها.
وهكذا بدت سامنتا بالرغم من صعوبة الموقف وحساسية اللحظة متماسكة، ورافضة أن يرى أحد دموعاً كان من الصعب منعها. وأطلت على الملأ أنيقةً متحفظة وقورة، كما يفترض بسيدة في موقعها أبت إلا أن تزين إعلان الرحيل بفستان مشرق الألوان.
وعلى غرار سامنتا التي عاشت لحظات صعبة بدايةً أوشكت فيها على الاستسلام للبكاء، كافح كاميرون مرتين للحفاظ على هيبته، بينما كان يقرأ نص الاستقالة من على المنضدة الرسمية أمامه. وقد زاد من صعوبة الموقف تزامن بداية إلقاء التصريح مع هتافات المارة، وإطلاقهم شعارات الابتهاج احتفالاً بالنتيجة.
أطلق كاميرون مناجاته الأخيرة بوقار واحترافية، في أداء أتى كالعادة خالياً من الأخطاء، على الرغم من جدلية المضمون. أنهى الكلام، والتفت نحو سامنتا معلناً أن الوقت قد حان للعودة إلى الداخل، وما كان منها إلا أن اقتربت لتقبّله، لتتراجع في اللحظة الأخيرة خشية أن تفقدهما الخطوة الرزانة المطلوبة، واكتفى بدوره بأن رافقها إلى الداخل، واضعاً راحة يده على ظهرها.
لم يستدر الثنائي نحو المصورين الناعبين، ولم يطفئ نارهم المتقدة لالتقاط صورة السبق الصحافي لدمعة ذُرفت غصباً، فحرم صقور الإعلام لقطتهم التاريخية.
لن يترك كاميرون مع رحيله من «10 داوننغ» أي إرث جوهري، ولن يسجل المؤرخون إلا أنه مكث في منصبه الرفيع لمدة أطول من تلك التي شغلها العديد من أسلافه. وسيتم تذكره دوماً على أنه رئيس الوزراء الذي أشعل الفتيل الذي أدى لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ويرى البعض أن التضحية بالنفس التي قام بها إنما تنبع من اعتقاد مضلل حول أن البريطانيين سيكونون أكثر سعادة في المضي قدماً محررين من قيود اتحاد يحتاج للإصلاحات.
ويرى البعض أن كاميرون لا يستحق اليوم الكثير من التعاطف، على اعتبار أنه ألقى ببريطانيا في دوامة الشكوك السياسية والاقتصادية، وأنه سيترك المملكة وحزبه أكثر انقساماً مما كانا عليه قبل جيل.
وتعرض كاميرون، في غضون ذلك، لسيل من الانتقادات والسخرية أبرزها غضب الناخبين من إخفاقه في التعامل مع أزمة المهاجرين، ووصفه تهكماً بأنه «نيفيل تشامبرلين القرن 21» نظراً لنهجه «التسووي» الخاضع مع قادة الاتحاد الأوروبي، رغم تأكيده على عدم وجود «عصا سحرية» لتقليص أعداد اللاجئين.
وقيل في كاميرون إنه رجل ذكي، لكنه يفتقر لحسن إصدار الحكم على الأمور، ونقل عن عمدة لندن السابق بوريس جونسون قوله، إن كاميرون قد حصل على أعلى علامات التقدير من جامعة أكسفورد، معقباً بدهاء: «في السياسة والفلسفة والاقتصاد» أي في مواد يعتبرها الأذكياء بحق مجرد خيار سهل.
ويشير بعض الناقدين إلى أن كاميرون يدفع اليوم ثمن سنوات طوال من الوعود غير المنفذة، ولإدارة حملة البقاء في الاتحاد التي أساءت على نحو كارثي الحكم على مزاج البريطانيين. ولا يزال غير محسوم حتى يومنا هذا ما إذا كان كاميرون يدرك حجم الأعداد التي أصبحت كارهةً له من قلب دائرته، ذلك أنه لا يبدي أي مؤشر على تفهم، أو على الأقل احترام معتقداتهم الراسخة.
غصة وهرّ
لمرتين تأرجح صوت كاميرون، أولاً حين أعرب عن شعوره بالفخر بحكومته، وثانياً حين قال : «أنا أحب هذه البلاد، وأشعر بالفخر أني قمت بخدمتها».
و أجج الكلام المشاعر التي اعترضتها غصة سخرية الإعلاميين الأجانب ، حيث كنت تسمع مراسلة التلفزيون الفرنسي تكرر : «ديفيد كاميرون انتهى». قال 17 مليون ناخب بريطاني كلمتهم، وحده «لاري» هرّ 10 داوننغ ستريت ترك يتجول ، لكنه بدا يحدّق في الحشود وكأنه يقول لهم: «عذراً، هلّا توقفتم عن التحديق؟ هناك مَن يريد بعضاً من الخصوصية هنا».