كبرنا، ولا يزال ذاك الصوت يسكن في أعماقنا، يداعب حسَّ الطفولةِ في دواخلنا، يأخذنا في رحلةٍ لعوالم الشقاوةِ تارةً، فنجد أنفسنا على تلك الجزيرة نتسلق الأشجار مع «فلونة»، ويحط بنا تارةً أخرى في جنبات القصر، لنعيش مع «ليدي أوسكار» قصةَ حبٍ وحرب.
وفي منتصف الطريق، نمر على «توم سوير» لنصافح «هاك»، ونعانق «ايبل» في «جورجي»، و«كاتي» في «لوسي»، و«مفيد» في «الحوت الأبيض»، ونقضي «أحلى الأيام» مع«ديروسي» و«فرانشي»، ونعيش مغامرات مثيرة مع «نحول»، لنكمل رحلتنا مع «قصص» و«حكايات عالمية».
كل ذلك، على وقع صوتٍ أعاد رنينه الزمن إلى الوراء، إلى ما يقارب الـ 35 عاماً. عن الفنانة سعاد جواد نتحدث، ملكة الدوبلاج التي تفردت بـ10 أعمال كرتونية لا تزال حاضرةً في الوجدان، صوتها نغمة عزفت على أوتار قلوب «الطيبين»، فتملكت حواسهم، السؤال عنها لا يتوقف، واللهفة إليها تتردد عبر موجات «التواصل الاجتماعي»، لتوصل لها رسائل حب رغم مرور كل هذه السنين.
«البيان» زارت سعاد جواد، لتتلمَّس شوقاً كامناً في أعماقها لجمهورها، وهي التي منحت صوتها الرخيم لدوبلاج مسلسلات الكرتون الجميلة في الماضي، وها نحن اليوم نلمح في عينيها حسرة وشفقة على حال الطفل، فالكرتون الذي يُقدَّم إليه اليوم كما تقول: بلا قيمةٍ ولا روح.
تشابه
بصراحة وعفوية تحدثت سعاد، لتكشف لنا مدى التشابه بين شخصيتها الحقيقية والشخصيات التي قدمتها، وقالت: في طفولتي كنتُ «فلونة»، بمرحها وشقاوتها، وفي مرحلة الجامعة تحولت إلى «ليدي أوسكار» بقوتها والمسؤولية التي تحملها على عاتقها، لا سيما أن وضعي في أسرتي دفعني لأن أكون صاحبة قرار، كوني الأخت الكبرى والمسؤولة عن والدتي وأشقائي التسعة، وخصوصاً في فترة أنهك فيها التعب والدي، فتوليت زمام القيادة مبكراً.
حكاية شغف جعلت سعاد تتمرد على ما يمكن أن يقف في وجه أحلامها، وعن ذلك قالت: سعيتُ لإرضاء أهلي الذين لم يحبذوا فكرة العمل الإعلامي، فالتحقتُ بكلية التربية الرياضية، ولكني كنتُ أقضي ساعات الدوام كاملة في أكاديمية الفنون الجميلة.
فأضعتُ على نفسي سنة دراسية، وهنا نصحني أساتذتي بأن أفكر بمستقبلي جيداً، ما جعلني أعيد تسجيل نفسي بأكاديمية الفنون الجميلة دون علم أهلي الذين عرفوا ذلك لاحقاً، واتخذوا موقفاً مني في البداية، إلا أنهم تقبلوا الأمر الواقع بعد ذلك.
شقاوة سعاد لم تتوقف عند هذا الحد، ففي الدوبلاج، كانت لا تقتنع بالشخصيات كما هي، بل كانت تضيف لمساتها التي أضفت الحيوية عليها، إذ ربطت بعضها بـ«لازمات» زادت حضورها لدى الجمهور، كما تحول «هاك» على يديها إلى شخصية عراقية تقريباً، بسبب طريقة تقديمها له.
صعوبات وطرائف
وذكرت سعاد أن الدوبلاج فن صعب، وقالت: كنا نقف ساعات طويلة في كابينة صغيرة حتى ينحصر الصوت، وأمامنا مايكروفون وشاشة، وبيدنا نص نقرأه ونراقب -في نفس الوقت- حركة شفاه الشخصية، ونستمع للشخصية اليابانية الرئيسة لنسير معها، كل هذا ونحن نتلقى ملاحظات المخرج والمصحح اللغوي، وقد عجز ممثلون كبار عن الاستمرار في الدوبلاج لصعوبته.
واسترجعت سعاد بعض الطرائف فقالت: لا أزال أذكر المصحح اللغوي الذي كان يغفو أثناء التسجيل، فنحاول أن نسجل أدوارنا بسرعة قبل أن يصحو، ولكننا كنا نتعجب من أذنه المتيقظة لأي «غلطة»، لنفاجأ به يفتح عينيه فوراً حين نتلفظ بأي خطأ مردداً «أنا نائم ولكني صاحي للغلط»!.
أدوار
ولشقاوتها، لم تكن تستهويها أدوار الفتيات، هذا ما أكدته سعاد التي سألناها عن الشخصية التي تمنت تقديمها، لتجيب فوراً: سندباد.
إحساس سعاد تجسد بعمق في أدائها لدور«أوسكار»، فهي الشخصية الأصعب في مشوارها، وعنها قالت: رغم أنني تعلمتُ في الأكاديمية أن على الممثل ألا يندمج اندماجاً كاملاً مع الشخصية، ليبقى مسيطراً عليها، إلا أن «أوسكار» خرجت عن نطاق سيطرتي، وتملكتني بشكل كامل.
ولم تكن سعاد تعلم أنها لا تزال تتربع في قلوب جمهورها من زمن «الطيبين» حتى الآن، وقالت: فوجئتُ بلهفة الكثيرين لمعرفة أخباري عبر مواقع التواصل، وكان الأمر بمثابة صدمة بالنسبة لي، وسعدتُ كثيراً بكلماتهم ومشاعرهم الدافئة، وهذا يدل على أن أعمالي أثرت فيهم ولا تزال.
اعتراف وندم
ورغم صعوبة اعتراف أي فنان بالندم على أي دور قدمه، إلا أن حميمية الحوار دفعت سعاد للاعتراف بندمها على الأدوار التلفزيونية التي مثلتها، وقالت: استمتعت بالدوبلاج إلى أقصى درجة، وفخورة بكل أعمالي في المسرح والإذاعة والصحف، إلا أنني ندمت على تجربة التمثيل التلفزيوني.
ولم أجد نفسي فيه، فقد شاركت بعدة تمثيليات، وفي دور صغير في «افتح يا سمسم»، وفي دور الخرساء في مسلسل «نادر»، وهو الدور الذي ارتبط بذكرى سيئة بداخلي، لأني كنتُ حاملاً أثناء تقديمه، وتعبت كثيراً وخسرتُ طفلي بعد ذلك.
واستنكرت سعاد دوبلاج الكرتون اليوم، مشيرة إلى أنه باهت لا حياة فيه ولا روح، وقالت: لا أعرف التقنيات المتبعة اليوم، ولكني أشعر أنه خالٍ من الإحساس، وقد أزعجني إعادة دوبلاج الأعمال الناجحة، مثل «توم سوير» ليظهر باهتاً، كما أزعجتني إعادة مونتاج بعض الأعمال القديمة، وحذف بعض المشاهد التي لا يزال يحفظها الجيل القديم عن ظهر قلب.
عوالم غريبة
عبرت سعاد عن استيائها من الكرتون الذي يقدم للطفل اليوم، ووجهت عتبها إلى التلفزيونات، وقالت: أين الرقابة على محتوى الطفل، وما فائدة الرعب الذي تقدمونه له، ولماذا نخلق له عوالم غريبة، كشخصيات اسفنجية، وأخرى بعين واحدة، ألم يكفِكم الكون بكل مخلوقاته من بشر وحيوانات وحشرات وطيور لتقدموا منه شخصيات جميلة للطفل؟!