عشقٌ قديم بين الفرنسيين والزهور، فهي تتوزّع في المنازل، وتزيّن شرفات البيوت، تتناثر على طاولات المقاهي، يطوف بها باعة متجوّلون في كل مكان، أوليست نعم الرفيق في الأفراح والأتراح وهدية المواسم والأعياد، ومتغنى أشهر الفنانين وتفنّن رسامون في تجسيدها على أشهر اللوحات قرب النساء الجميلات.
لا تقل الزهور عن أي مناسبة عظيمة، فلها عيدٌ وطنيٌ، وتختصر في العرف الفرنسي أسمى كلمات الحب، فيما يؤرّخ «سوق الزهور» في قلب هذه القصّة إلى الأبد، يفوح منها عطرٌ جميلٌ ، يسرى في أنفاس أجمل مدن العالم منذ القرن الثامن عشر.
وتضم السوق الواقعة على جزيرة سيتي الواقعة على ضفاف نهر السين الشهير، والتي تعد النواة الأولى لمدينة باريس، تضم العديد من المعالم السياحية والقصور الملكية، من كاتدرائية نوتردام وقصر العدالة وكنيسة سانت شابال، ومحافظة شرطة باريس، وليس بعيداً عن الحي اللاتيني، الذي كان له مكان كبير في الكثير من الكتابات العربية لأدباء مروا منه ذات يوم، أو ساحة سان ميشال ملتقى العشاق الباريسيين، و«أوتيل دو فيل» فندق المدينة مقر بلدية باريس وإحدى أجمل أبنيتها المعمارية.
تاريخ عتيق
ولعل تاريخ إنشاء سوق الزهور بباريس يعود إلى عام 1808 على ساحة لويس ليبين «محافظ شرطة باريس في عام 1893، ومؤسّس وحدة مكافحة الجريمة بفرنسا»، الواقعة بالدائرة الباريسية الرابعة، في وقت كانت تبحث فيه فرنسا عن خصوصيتها في أسلوب العيش، الذي صار عملتها الأولى اليوم في العالم، ويجيء من أجله أكثر من 40 مليون سائح سنوياً.
وكانت السوق في البداية سوقاً مفتوحة غير مغطاة، لتصبح في عام 1900 في أجنحة مغطاة، جدرانها زجاجية، تسمح لأشعة الشمس بمعانقة الزهور والنباتات الجميلة التي جاءت من كل مكان.
ريف مفقود
إنّ جزءاً كبيراً من سوق الزهور في شكله اليوم، يأخذ مأوى تحت ستة أجنحة معدنية مرتبة على ممرات متوازية، تصطف على جانبيها أشجار خضراء، جاءت لتزيد المكان اخضراراً في تناسق مميز، مع الألوان المختلفة للزهور والورود النادرة منها والمألوفة.
وتعرض بعض الزهور داخل الأجنحة، حيث يأتي يومياً مئات الباريسيين والسياح يبحثون عطر ورود مميز، وعن جزء من الريف الذي يفتقدونه في باريس، بينما يعرض البعض الآخر في الخارج في ساحة مخصّصة لذلك.
وتقدّم السوق منذ نحو قرنين أنواعاً مختلفة من النباتات والزهور النادرة التي تتنوع بتنوع المواسم، وتقنيات فنية مختلفة في فن تقديم الباقات والزهور، فضلاً عن شجيرات ونباتات كثيرة، يعرفها الفرنسي جيداً، وأخرى يكتشفها في كل مرة، بفضل نصائح وتوجيهات العاملين في السوق، الذي يفتح أبوابه على مدار أيام الأسبوع، عدا العطلة التي تتنازل فيه الزهور عن مكانها، لتحل مكانها العصافير وتغريدها الموسيقي.
سوق إليزابيث
وتحمل هذه السوق التي صارت اليوم واحدة من أكثر الأسواق زيارة في العالم منذ يونيو 2014، اسم الملكة البريطانية إليزابيث الثانية، كما تشير إليه لافتة بالقرب من السوق، فالملكة البريطانية التي تتربّع على العرش الملكي البريطاني منذ 63 عاماً، تعرفها جيداً، وتكن لها مشاعر ود نادر، حيث اكتشفتها في ريعان شبابها، وسبق لها أن زارتها في عام 1948 مع زوجها فيليب وهي حامل بابنها الأول شارل.
وجاء تكريم فرنسا ملكة بريطانيا التي زارت فرنسا للمرة الخامسة، تزامناً مع مراسم إحياء الذكرى السبعين على إنزال قوات الحلفاء في نورماندي، إبان الحرب العالمية الثانية، بإطلاق اسمها على سوق الزهور، في سابقة هي الأولى تحدث في فرنسا، حيث يطلق اسم شخص لا يزال على قيد الحياة على مؤسسة أو شارع فرنسي.
محبّة باريسيين
وقالت عمدة باريس الاشتراكية آن هيدالغو يومها في حفل إطلاق اسم الملكة على سوق الزهور، الذي حضره الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، بأن تسمية السوق شرف كبير، ويعكس مدى محبة الباريسيين لها.
وتبقى سوق الزهور بباريس دعوة مفتوحة لاكتشاف الجمال والفن والعطور على الطريقة الفرنسية، التي ما فتئت تجذب برومانسيتها الملايين من كل مكان.