يأتي السؤال مبكراً حول سوريا ما بعد الحرب، إذ إن هذه الحرب التي نراها لا بد أن تتوقف يوماً ما، ولن تستمر حتى نهاية التاريخ؟!
ويبقى التساؤل حول شكل الدولة السورية، ومساحتها وبنيتها العامة على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، تساؤل يكتنفه الغموض.
نفترض أن الدولة السورية باقية هنا بشكلها السياسي، وسوف تتجنب التقسيم الجغرافي إلى دويلات، ونستبصر التقسيم الوجداني في سوريا، على أساس طائفي ومذهبي وديني وعرقي، في ظل انتشار وباء الكراهية والأحقاد والرغبة بالثأر بين مكونات السوريين على خلفية الحرب، والاصطفافات التي رأيناها، ما بين من يحارب مع النظام أو ضده، وبين من هو معلق في موقفه، وهو يـتألم أمام مشهد التشظية.
هذه التشظية للهوية السورية الجامعة، لعبت دمشق الرسمية دوراً كبيراً في مآلاتها، إذ إن الدولة التي تبنت نظاماً حزبياً يتحدث عن الفكرة القومية الجامعة، لاغية فكرة «الوطن» لصالح «القطر البعثي» الذي كان ينادد في زمن ما قطراً بعثياً آخر في العراق، تعد أخطر ما يواجهه السوريون، في مستقبلهم، إذ تشظت كل مكونات الدولة ، حتى بات التقسيم الجغرافي طوق نجاة بنظر مراقبين.
يمكننا أن نقول بكل بساطة إن الدولة السورية إذا سلمت دون تقسيم جغرافي، أمام تحديين خطرين، أولهما إعادة الإعمار الاقتصادي وكلفته المالية الباهظة، ثم إعادة الإعمار للهوية السورية الجامعة.
500 مليار
توطئة للكلام عن إعادة إعمار الهوية السورية الجامعة على المستوى الاجتماعي لابد أن نتطرق أولاً إلى إعادة الإعمار الاقتصادي، إذ تقول بعض التقديرات إن سوريا تحتاج إلى 500 مليار دولار من أجل إعادة الإعمار الاقتصادي، وهي كلفة كبيرة جداً.
يقول السوريون إن كل ما يريدونه هو وقف الحرب، فيما إعادة الإعمار أمر سهل، والواضح أن الكلام يتأسس على شعار عاطفي، إذ إن أنموذج العراق الذي عقدت لأجله مؤتمرات دولية لإعادة إعماره، ويطفو على بحيرة من النفط والموارد والموازنات المنتفخة، لم يستطع أن ينفذ خطط إعادة الإعمار.تشير المعلومات إلى أن هناك 10 محافظات بمدنها وأريافها تعرضت للدمار الشامل من أصل 14 محافظة في سوريا، وتتفاوت نسبة الدمار بين محافظة وأخرى، فضلاً عن اختلاف شكله.
في حلب على وجه التحديد، فإن الدمار أكثر ما طال في البداية البنية الصناعية في المدينة التي تشير الخسائر فيها إلى أكثر من 15 مليار دولار، غير أن تعرّض المدينة في الفترات الأخيرة للدمار بواسطة البراميل المتفجرة الذي طال بيوت المدنيين، جعل من هذه التقديرات غير واقعية ، ليجري الحديث عن خسائر تتجاوز الخمسين مليار دولار في حلب وحدها.
من جهة ثانية، يعتمد البعض في تقديراته لتكاليف إعادة الإعمار على عدد اللاجئين والنازحين السوريين جراء الأزمة الحالية، حيث تشير أرقامها إلى وجود أكثر من 8 ملايين لاجئ ونازح بينهم نحو 4 ملايين في الدول المجاورة وعلى رأسها تركيا والأردن ولبنان.
يفترض أصحاب هذه النظرية أن أغلب هؤلاء اللاجئين والنازحين هم ممن فقدوا منازلهم بالكامل، لذلك يضعون تقديراتهم بناء على أرقام تتحدث عن دمار 4 ملايين منزل وما تتطلّبه من تكاليف إعادة إعمار قد تصل إلى أكثر من 150 مليار دولار.
مع ذلك لا يمكن الاعتماد على هذه التقديرات نظراً لأن ليس كل مَن غادر مكان إقامته هم ممن فقدوا منازلهم، فهناك هجرات حدثت لأسباب أمنية وبحثاً عن النجاة من الموت.
بحسب منظمة إعادة الإعمار السورية التي تعمل داخل البلاد لدراسة أوضاع الدمار وتقديرات تكاليف إعادة الإعمار، فإن تكاليف الإعمار قد تصل إلى 500 مليار دولار، نظراً إلى أن الدمار لا يقتصر على منازل المدنيين فحسب، بل هناك دمار هائل في البنية التحتية يتم في الغالب إخراجها من التقديرات، رغم أنها هي التي تحتاج إلى تكاليف إعادة إعمار باهظة، كالمستشفيات والمدارس وغيرها من المرافق العامة كالطرق والجسور والكهرباء وشبكة المياه والهاتف .. إلخ.
كارثة كبيرة
بحسب إحصاءات لناشطين ومهتمين، فإن أكثر من 25 مستشفى كبيراً تعرضت للدمار بشكل كامل ومثلها لدمار جزئي، إضافة إلى تعرض أكثر من ألف مدرسة للدمار الكامل واكثر منها إلى الدمار الجزئي أيضاً، وأما بالنسبة لبيوت المدنيين، فإن هناك أحياءً بكاملها في حلب وحمص وريف دمشق ودرعا وإدلب ودير الزور قد دمرت بالكامل، وفي بعض هذه المحافظات مثل حلب ودير الزور، يشير الناشطون إلى أن نسبة الدمار في بيوتها بما في ذلك الأرياف قد تصل إلى نحو 40%.
ومهما يكن، فإن الكارثة كبيرة وعلى كل الصعد، لأن متطلبات إعادة الإعمار تفوق، في أدنى التقديرات، مقدرات البلد الاقتصادية.
تنويعات ثرية
تتضارب الأرقام حول نسب المكونات السورية، من مسلمين من مذاهب مختلفة، ومسيحيين، وغيرهم، لكننا أمام فسيفساء سورية منوعة تضم مكونات مختلفة.
السوريون من أقدم العرب هجرة في العالم، إذ هناك اكثر من عشرين مليون سوري وصلوا إلى أميركا الجنوبية وأستراليا ودول اخرى في زمن مبكر، وحملوا جنسيات تلك الدول، ووصلوا إلى مواقع سياسية واقتصادية نافذة، وتتسم سوريا على مر التاريخ بكونها أرض حضارات حيث وصلت إليها مكونات دينية وعرقية وطائفية مختلفة وعاشت بأمن وانسجام في ظل هوية سورية جامعة، قبيل أن يصل البعثيون إلى الحكم في سوريا، ويصوغون هوية جديدة على أساس فكرة البعث، واستبدال الوطن بالقطر، وكأن في ذلك نسف لفكرة الوطنية بمعناها الجامع نحو فكرة الولاء للقطر بمعناه الحزبي البعثي، وبانعكاس المعنى لصالح الطائفة الحاكمة.
بفعل حركة الهجرة الداخلية، لا يمكن حصر منطقة جغرافية معينة بفئة عرقية أو دينية منفصلة، بل يمكن الحديث عن أغلبية سنية عامة تتركز في المحافظات الرئيسة، دمشق وحمص وحماة وحلب والرقة ودرعا، في حين يتركز المسلمون من الطائفة العلوية في قرى الساحل السوري وبعض مناطق الداخل والقريبة من الداخل، أما الدروز فالكثافة الأعلى لهم في المنطقة الجنوبية بالجبل بمحافظة السويداء، فضلاً عن وجود أكثر من 40 ألف درزي في هضبة الجولان المحتل.
نسب متفاوتة
ينتشر المسيحيون في كل أنحاء البلاد، وفي بعض المدن يتركزون في أحياء معينة، أو في قرى بأكملها، مع الإشارة إلى وجود عرقيات ويتوزعون مثل الآشوريين والكلدان والسريان والأرمن والآراميين، ويتركز الشركس في دمشق، في حين يتركز الأرمن بالدرجة الأولى في حلب وريف اللاذقية والقامشلي في شمال شرقي البلاد، أما الأكراد الذين يتجاوز عددهم المليون فيتركزون في مناطق مختلفة.
يشار إلى أن قانون منح الجنسية الذي صدر في مطلع أبريل/نيسان 2000 لمكتومي القيد بسبب إحصاء الحسكة 1962 يعني زيادة عدد الأكراد المسجلين رسمياً في سجلات الدولة بنحو200 ألف شخص.
أما بالنسبة للتركمان وهم مسلمون سنة فلا توجد إحصائية دقيقة بيد أن بعض المصادر رجحت أن تكون نسبتهم 3% من تعداد السكان الإجمالي، ويتوزع تركمان سوريا في سوريا بين القرى والمدن وأهم تجمعاتهم في حلب ودمشق واللاذقية وحمص حيث يوجد فيها باب اسمه باب التركمان, وفي دمشق يوجد حي ساروجة نسبة للقائد المملوكي التركي صارم الدين ساروجة، وفي حلب يتركز التركمان في القرى الشمالية لمدينة حلب.
ويقسم التركمان السوريون إلى قسمين، تركمان المدن: وهم من العائلات التي تمتد جذورها إلى السلالات التركية التي وجدت في سوريا منذ قدوم السلاجقة ومن ثم المماليك والعثمانيين، وبعض هذه العائلات التركمانية قدمت موظفين في عهد الدولة العثمانية أو في الجيش، ثم تركمان القرى: خليط من عشائر تركمانية (تعود بأصلها إلى قبائل الأوغوز) وجميع القرى التركمانية في سوريا من الأوغوز.
مع غياب إحصاءات دقيقة للتوزع الديني، تشير العديد من الدراسات إلى إحصاءات مختلفة منها إحصاء عام 1985 الذي يعدد النسب على الشكل التالي: 76.1% مسلمون سنة، و11.5% علويون، و3% دروز، و1% إسماعيليون، وبين 4.5% و0.4% شيعة اثنا عشرية.
وهناك بعض الباحثين من يشكك في دقة هذه النسب، ويرى أن نسبة السنة في سوريا لا تقل عن 80% وتصل إلى 85% إذا أضيف إليها نسبة السنة الأكراد، إلى جانب 9% من العلويين و5% من المسيحيين الذين هاجر كثير منهم إلى الخارج.
تضارب لايلغي التنوع
في حين يذكر تقرير وزارة الخارجية الأميركية للحريات الدينية أن نسبة المسلمين السنة في سوريا تبلغ 77%، و10% علويون، و3% دروز وإسماعيليون وشيعة اثنا عشرية، و8% من السكان مسيحيون من طوائف مختلفة تتبع غالبيتها الكنيسة الشرقية وتهيمن الطائفة الأرثوذكسية بشكل كبير على التوزع المسيحي، وتوجد أيضاً أقلية يزيدية في منطقة جبل سنجار على الحدود مع العراق.
أما بالنسبة لليهود فقد هاجر معظمهم بعد سماح الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد لهم بمغادرة البلاد في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وتشير الإحصاءات إلى بقاء عدد قليل جداً لا يتجاوز الآلاف في كل من حلب ودمشق حصرا, وهناك دراسات تقول إن عددهم لا يتجاوز المئات. ويبدو واضحاً أن الأرقام النهائية غير دقيقة، إذ تتضارب من قراءة إلى قراءة.
انشطار بنيوي
بدأت الحرب في سوريا مواجهة بين النظام ومجموعات شعبية لوجود مطالب لها، لكنها سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية بين مكونات سوريا ذاتها، ولعب دخول التطرف دوراً كبيراً في التشظية على أساس ديني ومذهبي وطائفي، في ظل إعادة تموضع كل المكونات السكانية ما بين من يرى في النظام حليفاً أساسياً له، ومن يرى في النظام حامياً في ظل التهديدات التي تطلقها مكونات أخرى عبر عناوين سياسية وحزبية وفصائلية، وأولئك الذين باتوا يقتنعون أن الحرب الأهلية في سوريا جزء من حرب إقليمية طائفية، في كل الإقليم أدت إلى انقسام السوريين على أساس مذهبي.
برغم ذلك تحاول طبقات اجتماعية واقتصادية سورية أن تعيد الصراع إلى مربعه الأساسي، فطبقة التجار الأثرياء السنة في دمشق تتحالف مع النظام، لاعتبارات كثيرة، وهذا عنوان تتسلح به دمشق الرسمية للرد على ما يتردد عن الانشطار البنيوي في الهوية السورية الجامعة، بل يضيف النظام أن جزءاً كبيراً من جنده هم من السنة، وأبرز شخصياته من مناطق حوران السنية، وهذه أدلة يدفعها النظام في وجه من يتحدث عن التشظية.
وسط هذه العناوين التي باتت تمنح للحرب الأهلية في سوريا، مذاقاً مراً على أساس القسمة على اثنين، انشطرت أيضاً الأقليات والطوائف الأقل نفوذاً، إذ يرى المسيحيون مثلاً أن النظام حامي وجودهم في ظل الخوف من سيطرة التشدد، والأمر ذاته ينطبق على مكونات أخرى.
أدت هذه الانشطارات التي تسبب بها النظام إلى انقسام السوريين إلى مجموعات تتقاتل وتم زرع بذور الكراهية بينها، وتوليد الرغبة بالانتقام حتى لو توقفت الحرب في سورية، ويمكن القول هنا إن ما بعد الحرب في سوريا اخطر بكثير من الحرب ذاتها، إذ كيف يمكن محو آثار الكراهية التي انتشرت مثل الوباء بين السوريين، في ظل مقتل ربع مليون سوري وتشرد الملايين، وتبادل الاتهامات حول المسؤول عن تحطيم الهوية السورية الجامعة.
وصفة ما بعد الحرب
يرى خبراء أن أكبر تحد تواجهه سوريا حاليا، يتعلق بإعادة بناء الهوية الوطنية السورية الجامعة، بعد أن انفرط عقد هذه الهوية كلياً، وأمام هؤلاء الخبراء تحديات كثيرة لوضع وصفة إعادة إعمار الهوية السورية الجامعة، أبرزها تهيئة الظروف الاقتصادية الجيدة عبر إعادة الإعمار الاقتصادي للتخفيف من آثار الخسائر الاقتصادية على الناس، ثم تأسيس عقد اجتماعي ووطني جديد، وصياغة دولة العدالة، لا دولة الحزب أو الطائفة أو التحالفات بين مكونات ضد مكونات أخرى.
لا يشكك أحد بطبيعة المهمة الصعبة جداً، فقد تسببت فكرة «القطر» التي جاء بها حزب البعث في خفض فكرة «الوطن» بمعناه الجامع، هذا فوق أن خبراء يرون أن سوريا أمام عقدة أكبر تتعلق بكون إفشاء الصفح عن كل أطراف الحرب أفراداً ومؤسسات قد يؤدي للتسامح وقد يؤدي إلى انفجار غضب من نوع آخر حين لا يرضى سوريون بدفن ذكريات الحرب، على ذات نماذج مثل الحرب اللبنانية، وتتبعاً لنموذج الحرب في العراق التي أدت إلى انشطار وجداني وطائفي ومذهبي أدى إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات دون تقسيم نهائي على شكل جغرافي معتمد دولياً.
إن مهمة إعادة إعمار سوريا اقتصادياً، مهمة كبيرة وصعبة، لكن المهمة الأصعب ما بعد وقف الحرب تتعلق بإعادة إعمار الهوية السورية الجامعة، وإعادة تعريفها وإقناع السوريين أن هذا الزمان لا يحتمل الحقد ولا الثأر أيضاً.
أمة عربية ليست واحدة
حزب البعث العربي الاشتراكي حزب تأسس في دمشق، سوريا في العام 1947[1] تحت شعار أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة وأهدافه وحدة حرية اشتراكية وهي تجسد الوحدة العربية والتحرر من الاستعمار والإمبريالية وإقامة النظام الاشتراكي العربي.[2] وهو الحزب الحاكم في سوريا منذ ثورة الثامن من مارس في عام 1963 حتى الآن وكان الحزب الحاكم للعراق منذ 17 يوليو 1968 حتى سقوط نظام صدام حسين بتاريخ 9 أبريل 2003 في أيدي قوات التحالف.
يوصف حزب البعث على أنه مزيج من الاشتراكية، والقومية العربية، تبنى المبدأ السياسي وتعمل أيضاً على أساس الانقلاب الشعبي ضد الحاكم الظالم أو العميل أو من يواكب الاستعمار. وقد اصطدمت هويته الوطنية والقومية مع الحكومات العربية المختلفة في أماكن وجود الحزب. ويرفع الحزب شعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة».
ملايين القتلى والجرحى واللاجئين
بلغ عدد القتلى في سوريا نحو 550 ألفاً من المدنيين، وأصيب ما لا يقل عن نصف مليون شخص، بحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وهناك أكثر من 30 ألف شخص في عداد المفقودين، في الوقت الذي يتم فيه احتجاز«عشرات الآلاف» في سجون النظام، مع تشرد ثمانية ملايين سوري داخل سوريا وخارجها.
منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، من جانبها، لفتت إلى أن 5.5 ملايين طفل سوري تأثروا بسبب الحرب الأهلية بفقدهم أرواحهم وأطرافهم وآبائهم ومعلميهم ومدارسهم ومنازلهم وجميع جوانب طفولتهم تقريباً.
وذكرت اليونيسيف أن الأطفال السوريين يدفعون الثمن الأكبر في هذا الصراع، الذي يدخل الآن عامه الرابع، وأضافت أن أكثر من عشرة آلاف طفل لقوا حتفهم في القتال بين قوات الرئيس بشار الأسد، والمعارضة المسلحة.