أميركا وكوبا.. مسار بعد حصار

ت + ت - الحجم الطبيعي

مشاهدة الجرافيك بالحجم الطبيعي اضغط هنا

لم يكن حتى لأفلام الخيال العلمي في سينما هوليوود أن تتّسع لمشهد يرى فيه رئيس أميركي يهبط في العاصمة الكوبية هافانا ويتجوّل في شوارعها ويتحدث إلى شعبها مباشرة بعدما كان الزعماء الأميركيون يكتفون بتحريض الكوبيين على قيادتهم.

لكن السياسة ليست بعيدة عن الخيال، وهوليوود ليست بعيدة عن البيت الأبيض، بل إن كوبا نفسها لا تبعد عن الولايات المتحدة الأميركية أكثر من تسعين ميلاً.

وأصبح الرئيس الأميركي باراك أوباما أول رئيس أميركي يزور كوبا منذ زيارة الرئيس كوليديج عام 1928، بعدما سبقها بتصريحات متدحرجة اعترف فيها علناً بفشل سياسة الحصار والعقوبات التي استمرت قرابة ستين سنة، أي مباشرة بعد الثورة الكوبية عام 1959.

زيارة بلا استقبال

بعد الثورة التي أطاحت برئيس كوبا في حينه، فولغنسو باتيستا، حليف أميركا في 1959، زار قائد الثورة فيديل كاسترو الذي أصبح رئيساً، الولايات المتحدة والتقى نائب الرئيس ريتشارد نيكسون. الرئيس الأميركي إيزنهاور تذرّع بارتباطه بلعبة غولف لتجنّب استقبال كاسترو الذي عاد إلى بلاده وقام بتأميم جميع المصالح الأميركية.

في حقيقة الأمر لم تكن واشنطن مستعدة لتقبّل التغيير الذي حصل في منطقة تقع على مرمى حجر منها، وكانت تحت احتلالها. لذلك كان التعامل الأميركي مع كوبا شديداً منذ البداية وفوراً بعد ثورة الـ 59، وقامت بفرض المقاطعة التجارية وقطعت علاقاتها الدبلوماسية وفتحت أبواب الهجرة إلى أراضيها لأعداء كاسترو وخصومه السياسيين، ونظّمت بوساطة (سي آي إيه) مئات المحاولات لاغتيال فيدل كاسترو وقلب نظام حكمه.

وعلى نحو موضوعي، التقى البعد العقائدي الاشتراكي لدى القادة الكوبيين مع السياسة الأميركية المعادية لكوبا، لينتج عن هذا الالتقاء توجّه كاسترو صوب الاتحاد السوفييتي محولاً كوبا إلى أول دولة شيوعية في العالم الغربي، وقام بالتوقيع على العديد من المعاهدات مع الاتحاد السوفييتي، لتبدأ المساعدات المالية واللوجستية السوفييتية تنهال عليه.

عملية خليج الخنازير

في أبريل 1961، وبعد مرور يوم واحد على إعلان كاسترو كوبا دولة اشتراكية، قامت قوات من الكوبيين المدعومين من (سي آي إيه)، بمحاولة لغزو خليج الخنازي، على أمل هزيمة الثورة الوليدة، إلا أن المحاولة فشلت، وكان للدعم السوفييتي دور مهم في صد عملية الغزو التي مهّدت الأرضية لتوجّه القيادة الكوبية نحو امتلاك قوة رادعة تمثّلت بنصب الاتحاد السوفيتي قواعد لإطلاق صواريخ متوسطة وبعيدة المدى تحمل رؤوسا نووية داخل الأراضي الكوبية، ما هيأ الأجواء لولادة أزمة أخطر من سابقتها على السلام العالمي، في ما عرفت بأزمة خليج الخنازير، وكان يمكن أن تتطور الأمور نحو حرب عالمية ثالثة.

هروب مارييل

وفي أبريل 1980، أعلنت الحكومة الكوبية على نحو مفاجئ، أن أي شخص يمكن أن يغادر كوبا، ما دفع أكثر من 125 ألف كوبي على الخروج في الأشهر التالية، عن طريق البحر في العملية المعروفة باسم هروب مارييل الجماعي، على اسم الميناء البحري، المنفذ الذي خرج منه الفارون.

بعد ذلك، أغلقت الحكومة الكوبية ميناء مارييل. حين سئل كاسترو عن سبب موافقته على فتح الحدود للمهاجرين، قال إن من يخرج من وطنه في هذه الظروف ليس سوى عبء عليه.

قدر عدد المهاجرين إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة بحوالي 125 ألفاً في 1700 قارب توفي منهم 27 مهاجراً، في حين وضع بعضهم في مخيمات للاجئين، والبعض الآخر في السجون انتظاراً لجلسا النطق بالحكم بالترحيل، وصنّف 2% من المهاجرين كمجرمين عنيفين وأنكرت حقوق مواطنتهم، لتتحول العملية التي شجّعتها الولايات المتحدة إلى عبء عليها ومصدر للصداع.

الانعطافة النوعية

في ديسمبر 2014، كان الإعلان المفاجئ عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وتعهّد أميركا بتخفيف الحصار المفروض على كوبا، ثم أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما مطلع يوليو 2015 أن بلاده وكوبا ستعيدان تبادل السفراء إيذاناً ببدء «فصل جديد» في العلاقات، وبالفعل أعيد فتح السفارتين في أغسطس، وهي أول خطوة ملموسة باتجاه تطبيع العلاقات، وقد حضر وزير الخارجية الأميركي جون كيري افتتاح مقر السفارة الأميركية بهافانا في 14 أغسطس 2015.

الزيارة التاريخية

في 20 مارس 2016 أصبح أوباما أول رئيس أميركي يزور كوبا منذ 88 سنة. من المفيد أن نترك الكلام لأوباما نفسه، فماذا قال في هافانا؟: «مر ما يقرب من تسعين عاماً منذ أن وطأت قدم رئيس أميركي أرض كوبا، وجودي هنا أمر رائع.

 عام 1928 جاء الرئيس كوليديج على متن سفينة حربية، استغرق منه الوصول ثلاثة أيام ليكون هنا، بينما استغرق مني ذلك ثلاث ساعات فقط. وللمرة الأولى على الإطلاق، طائرة الرئاسة تحط على الأراضي الكوبية، وهذه أول مرة تتوقف هنا».

التطبيع والأهداف

لا شك أن المصالح وليست المبادئ هي ما تقف وراء التحوّل الأميركي تجاه كوبا، على أمل الانطلاق منها نحو دول أميركا اللاتينية حيث تسود مشاعر عداء للولايات المتحدة والغرب. ولا تجد أميركا حرجاً في إصلاح علاقتها مع الدول التي صنفتها في الماضي على أنها راعية للإرهاب، في حال اقتضت مصلحتها ذلك، وهي بالتأكيد لها مصلحة تجارية ومصرفية يمكن تحقيقها من خلال فتح هذه النافذة مع أميركا اللاتينية.

لكن الأمر الأهم في هذه المسألة أن كل الأسباب التي وقفت وراء حصار دولة عظمى لشبه جزيرة صغيرة، لم تتغيّر وفي جوهرها طبيعة النظام، وأن ما تغيّر هو أميركا، ومن تحرّك نحو الآخر هو أميركا، وستنبئنا السنوات المقبلة بما يمكن أن يترتّب على هذه الانعطافة من تداعيات على مستوى الأميركيتين.

إحراج

في نهاية المؤتمر الصحافي بين الرئيس الكوبي راؤول كاسترو والرئيس الأميركي باراك أوباما، واجه الأخير موقفاً محرجاً حين منعه كاسترو من وضع يده على كتفه، كعادة أوباما مع الزعماء الذين يجتمع بهم.

وحاول أوباما أن «يربت» على كتف الرئيس الكوبي لكن الأخير قام بمسكها ورفعها، وبانت على الرئيس الأميركي علامات الإحراج، ولكنه تابع المؤتمر بابتسامة.

Email