يشكو منتقدو استراتيجية الرئيس الأميركي باراك أوباما حول الشرق الأوسط من افتقارها للرؤية الاستراتيجية، في نقد يكاد يكون مخطئاً تماماً. فقد شغل أوباما منصب الرئيس مؤمناً بأن تقليص حجم الوجود العسكري الأميركي الهائل لأميركا في المنطقة والاستثمار السياسي يشكلان إحدى مصالح الأمن القومي الأميركي القائمة بذاتها.

وقد أرهق غزو العراق وسيل الحروب على الإرهاب كاهل أميركا، سيما في زمن الأزمات الاقتصادية. ولم يأت «التحجيم الصحيح» لدور أميركا في المنطقة مرادفاً فقط لخفض حضورها العيني، بل كان معناه أيضاً وضع ضوابط دبلوماسية، والتراجع، وحض الحلفاء على الاضطلاع بمسؤولية أكبر حيال ضمان أمنهم الخاص.

التحليل والممارسات

إلا أن سياسات أوباما تخبطت كثيراً لدى تطبيقها، على الرغم من رؤيته التحليلية الثاقبة للأمور، وغالباً ما فشلت إدارته في تنفيذ الوعود التي كان يطلقها في خطبه الملهمة، وواجهت صعوبات وتحديات في إيصال رسالة سياساتها بشكل مؤثر إلى شعوب الشرق الأوسط، وعجزت عن توضيح مؤامرات جلية. فأغضبت جهود البقاء على الحياد والامتناع عن التدخل المناصرين من مختلف الجهات الراغبة بدعم غير مشروط من أميركا والرافضة لاضطلاعها بدور الوسيط النزيه.

وكافحت إدارة أوباما للتأقلم، حين فشلت سياساتها في وقف المستوطنات الإسرائيلية، وتفكك الجيش العراقي مقابل ظهور «داعش»، كما فشلت في كبح أو طمأنة حلفاء أميركا، الذين عملوا على تقويض العديد من مبادرات السياسة الخارجية الأميركية.

وأسفرت النتيجة عن توسع الهوة بين نجاحات أوباما التحليلية والإخفاقات التنفيذية. وواجهت الإدارة الصعوبة الأكبر في رسم ملامح المنطقة بالشكل الصحيح، وتبين أن تبديل الأنظمة الإقليمية الفاشلة في الشرق الأوسط وتحديد حجم الوجود الأميركي فيها لن يكون يوماً بالمهمة السهلة، حيث من المرجح أن يكتسب أوباما احتراماً متجدداً من الرئيس المقبل، حين يتعثر بانفجارات المنطقة المتواصلة.

رؤية غير متسقة

وأبعد من حل الحروب القديمة، قاوم أوباما جهود الانجرار إلى حروب جديدة في سوريا وليبيا. ومثلت أحداث الربيع العربي لأوباما دفعاً لآمال تغيير أنظمة المنطقة المسمومة جذرياً، علماً أنه فشل في دعمها أو إدارة الحروب السياسية التي ولدتها. طبقت الإدارة الأميركية رؤيتها للربيع العربي على نحو غير متسق، إلا أنها عندما أرغمت على الاختيار ذهبت إلى التضحية بالتغيير، خدمةً لاستراتيجية التحجيم الصحيح الأوسع.

قرأ أوباما إمكانيات القدرة التغييرية للربيع العربي بدقة، لكنه عجز عن تصور كيفية قيادتها في الاتجاه الصحيح. واتسمت مقاربته للثورات العربية بالرؤيوية والتفكك، فتعاطفت مع طموحات المتظاهرين، وعجزت عن استيعاب واقع أن النظام القديم تحت الهجوم وأعلامه حظيا بدعم أميركا وحمايتها.

نجح أوباما إلى حد بعيد في إقصاء أميركا عن خوض حروب قديمة والانجرار إلى حروب جديدة، لكن من الصعب حصد تقدير على إنجازات لم تحصل في العراق وليبيا وسوريا واليمن. ولعل القضية الحاسمة الكبرى لعهد أوباما هي سوريا، التي ستطبع بكم الدم المراق، والتشدد، والاضطراب الإقليمي في الشرق الأوسط لعقود مقبلة.

علماً بأن إدارة أوباما بدت حكيمة في مقاومة الانزلاق نحو التدخل في سوريا وحشد الحلفاء وصياغة ظروف المفاوضات وتخفيف المعاناة البشرية.

نجح أوباما في تكبيد تنظيم القاعدة خسارة سياسية وتنظيمية على امتداد المنطقة ووقف دوامة التوجه نحو صراع الحضارات. ولخصت استراتيجية أوباما حيال «داعش» رؤيته الأوسع للمنطقة، حيث أدرك حجم تهديده دون أن يبالغ فيه.

ويبقى رهن السنوات المقبلة موضوع تمثيل سياسات أوباما لحظة تحول في نهج أميركا حيال الشرق الأوسط، أو اعتبارها مجرد انحراف مؤقت. سيحاول خلف أوباما على الأرجح، سواء كان ديمقراطياً أو جمهورياً، تصحيح الإخفاقات المزعومة لسلفه بإعادة التدخل.

وسيرغب عدد من صناع السياسة الخارجية لأميركا بأن يشهدوا على عودة الحضور العسكري الأميركي في المنطقة، سيما في العراق وسوريا. لذا قد يسارع الرئيس العتيد إلى إقصاء نفسه عن طيف أوباما، ليكتشف لاحقاً أن الحقائق الهيكلية القائمة في المنطقة تبرر رؤية أوباما.

تصميم

بدأ أوباما ولايته مصمماً على إعادة التوازن لالتزامات أميركا في الشرق الأوسط، إلا أن المحاولات المتكررة للتوسط من أجل سلام إسرائيلي فلسطيني بدت وهمية، ورسم الإخفاق في العراق الملمح الأبرز لنظرة الإدارة الأميركية للعالم.

وتمسك أوباما بقوة باستراتيجيته حيال المنطقة، وكان حاسماً في منحها الأولوية دوماً، والتصدي لمحاولات إخراجها عن المسار المرسوم.

وكانت تتسم بوضوح وترابط قادا أوباما إلى طرح مبادرات أساسية تعالج مشكلات متفاقمة، تطال مصالح الأمن القومي الأميركي، بدءاً ببرنامج الأسلحة النووية لإيران، مروراً بالإرهاب، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وصولاً إلى الحرب في العراق.