في كل مرة تكبّد ما يسمى قوات المعارضة المقاتلين المتشددين الخسائر، تصل إلى سوريا جحافل بالآلاف. وإننا بالتالي إزاء هذا الواقع مرغمون على الاعتراف بأن الحرب التي تشهدها البلاد تتعهدها أطراف خارجية، وأن استمراريتها مرهونة بمواصلة إرسال الجنود للموت.
كما لا بد لنا من فهم المسببات الخارجية التي تحرص على إبقاء حالة الوضع الراهن، حيث نتمكن حينئذ فقط من وضع استراتيجية تنقذ الأرواح.
تكتيك لتغيير الأنظمة
أوضح الداعمون لبدايات الحرب في سوريا أن ما تشهده البلاد امتداد لأحداث الربيع العربي، إلا أن عمر الصراع زاد على خمس سنوات، وما عاد أحد اليوم يقبل بذلك التفسير، لأن الحكومات المنبثقة عن تلك الأحداث أطيح بها. وبعيداً عن النضال من أجل الديمقراطية، فإن مجرى الأحداث لم يكن أكثر من مجرد تكتيك لتغيير الأنظمة العلمانية لصالح الحركات المتشددة الأخرى.
ويقال اليوم إن «الربيع العربي» في سوريا اختطف على يد القوى الأخرى، وإن ما يسمى بـ«الثورة» افترسها المقاتلون المتشددون.
ولم يكن سلوك الدول الغربية ودول المنطقة على السواء متناسقاً، على غرار ما أوضح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ البداية، حيث يستحيل من الناحية الميدانية أن يتم القتال على جبهتي المتشددين والدولة في الوقت عينه تحت ذريعة الوقوف كطرف ثالث في المعركة. ولم يتخذ أي طرف علناً موقفاً اصطفافياً مع جهةٍ ضد أخرى، وهكذا فإن الحرب تتواصل.
قضية داخلية أو إقليمية
والواقع أن الحرب في سوريا لا تحمل قضية داخلية، بل هي نتاج بيئة تتخطى الحدود الإقليمية وتصل نحو العالمية.
فحين أعلن الكونغرس الأميركي الحرب على سوريا عام 2003 بناء على نتائج التصويت على قانون محاسبة سوريا، كان هدف ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش سرقة الاحتياطي الهائل لسوريا من الغاز، علماً أن سوريا تتعرض منذ سقوط النظام العراقي إلى ضغوط أميركية مُـحكمة لإجبارها على الانصياع الكامل لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة.
وقد بلغت هذه الضغوط ذروتها بمصادقة الكونغرس الأمريكي على قانون أطلِـق عليه «قانون محاسبة سوريا» بذريعة أن دمشق غير جادة في الحرب العالمية على الإرهاب.
إننا نعلم اليوم أن الخوف من «قمة إنتاج النفط» لا يعطي مؤشراً على نفاد احتياطي النفط، وأنه سرعان ما ستسعى واشنطن إلى استغلال الأشكال الأخرى من الهيدروكربون الموجود في خليج المكسيك. إلا أن الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة قد تغيرت.
وأصبحت تتركز منذ اليوم على احتواء النمو الاقتصادي والسياسي لكل من روسيا والصين عبر الفرض عليهما ممارسة الأعمال التجارية بشكل حصري عبر الممرات البحرية التي تخضع لمراقبة حاملات الطائرات التابعة لها.
وقد أعرب الرئيس الصيني شي جينبينغ، منذ وصوله إلى السلطة عام 2012، عن نيته تحرير بلاده من تلك القيود، وإنشاء ممرين تجاريين جديدين عبر قارة آسيا يصلان إلى دول الاتحاد الأوروبي، على أن يتم إنشاء الممر الأول على أنقاض طريق الحرير القديم، أما الثاني فسيمر عبر روسيا وصولاً إلى ألمانيا.
وأعقبت تلك الأحداث إقامة بيلاروسيا علاقات مع كل من تركيا والولايات المتحدة، مما أدى إلى اتساع مدى المتراس الشمالي الذي يقسم أوروبا إلى نصفين. وهكذا أقفل الصراعان اللامتناهيان الممرين المزمعين.
إلا أن هناك أخبارا جيدة تتمثل في عدم تمكن أي جهة من التفاوض على تحقيق الفوز في أوكرانيا مقابل الهزيمة في سوريا، ذلك أن هدف الحربين المشتعلتين واحد. أما الخبر السيئ فيعكس استمرار الفوضى على الجبهتين، طالما أن ذلك يعني الحيلولة دون تمكن الصين وروسيا من بناء ممر آخر.
وبالتالي فإنه لا يمكن التعويل على اكتساب شيء من التفاوض مع جهات مدفوعة للإبقاء على الصراع. ومن الأفضل التفكير بطريقة براغماتية مغايرة، وتقبّل فكرة أن الحرب هي السبيل الوحيد الذي يتيح لواشنطن قطع طريق الحرير. وسيكون ممكناً عندئذ فقط تفكيك عقد المصالح المتشابكة العديدة وإحلال الاستقرار في المناطق المأهولة.