قال الشعب البريطاني كلمته، واستقال رئيس حكومته، وها قد بدأت تداعيات آراء الناخبين ومسبباتها تعيد رسم مستقبل بريطانيا بطرق جذرية خطيرة، ساقت البلاد في رحلة محفوفة بمخاطر تحتم تغيّر المشهد السياسي والاقتصادي.
لا يشكل التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد تحدياً للحكومة والسياسيين وحسب، بل لكل من تعرض رأيه للرفض.
وينبغي اليوم إعادة التفكير في موقع بريطانيا على الخارطة العالمية، ويتطلب الأمر خوض جدال حول تحالفات لم تكن لدينا منذ فرضت أزمة السويس واقعاً جديداً على بريطانيا ما بعد الإمبريالية. وسيكون لزاماً مجدداً على بريطانيا إعادة تصوّر فكرتها عن نفسه
ولا بد من التفاوض كذلك على علاقة جديدة مع أوروبا غير راغبة بلعب دور السخي. ففي حين نجح مصرف إنجلترا بتثبيت وضع لندن مالياً عقب بداية التراجع الدراماتيكي في قيمة الأسهم، وتزعزع الجنيه الاسترليني، فإنه من الضروري إدارة الوضع بتأنٍ تفادياً لانتكاسة جديدة للمصارف.
وسارع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، المفجوع بالهزيمة، إلى الإقرار فوراً بعجزه عن قيادة البلاد عبر الزوبعة المقبلة، وأعرب في خطاب معبّر مقتضب من «داونينغ ستريت» عن تقبله للفشل، معلناً أن خلفه سيتولى زمام الأمور بحلول موعد مؤتمر الحزب في أكتوبر المقبل. غير أن الخطب لم تعد تشفع له، ولا التاريخ سينقذه، وسيعتبره رجلاً راهن على مستقبل بلاد برمتها للخروج من أزمة حزبية. ويضاف إلى خطيئة كاميرون الأصلية رفضه التصدي بحزم لأعداء الداخل حيال خططهم المفصلة للاستفتاء الشعبي العام، على الرغم مما يتمتع به من سلطة اكتسبها من ولاية جديدة فاز بها، أخيراً.
أضف إلى ذلك أن الحملة ذاتها التي أحكم سيطرته على مفاصلها قد فشلت هي الأخرى، وكان خطأ مشروع التخويف الرئيسي أنه لم يستوعب أن العديد من البريطانيين، الذين يعيشون في ظل الشكوك وانعدام الأمان، ليس لديهم الكثير ليخسروه. ولم تتطرق الحملة بتركيزها على المدينة وكبرى مؤسسات الأعمال لضحايا الإخفاقات الضخمة للأعمال الصغيرة. وقد فاز كاميرون بقيادة الحزب من خلال الالتفاف على مبدأ الشك باليورو لمنافسيه، إلا أنه طوال السنوات التي أمضاها في موقع الريادة لم يقم بأي خطوة تعزز الرؤية الإيجابية عن الاتحاد الأوروبي.
لا يبدو أفق القيم التقدمية وحتى الإنسانية في بريطانيا مشجعاً. كما تلحّ بعض الأصوات في أوروبا على إخراج بريطانيا السريع، إلا أن الرحيل غير المنتظم ليس في مصلحة أحد، ويعتبر موقف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التسووي حكيماً في هذا الصدد.
ويتعين اليوم على مناصري الخروج من بوتقة الاتحاد الأوروبي البدء في ما أتقنوا تفاديه خلال الحملة، ووضع خطة محددة للانسحاب من الاتحاد، في ظل وجود أسئلة كبرى لا تزال معلقة في الهواء، من طراز قبول بريطانيا مستقبلاً بالبقاء كأحد أعضاء السوق الأوروبية المتحدة أو لا.
لن يتمكن رئيس الوزراء الجديد من التغاضي أكثر عن تلك التساؤلات المقلقة، حيث سيتمتع غالبية أعضاء البرلمان المؤيدين للبقاء في أوروبا بحق نقاش الأجوبة. إلا أن التوصل إلى مثل تلك الإجابات يمرّ أولاً بأزمة سياسية لا بدّ من معالجتها. لا يمكن لبريطانيا أن تمر بأوضاع أصعب.
تغير الظروف
تمت عملية التصويت وسط شعور عارم بالدهشة ، رغم محاولة زعيمي معسكر الانسحاب عمدة لندن السابق بوريس جونسون ومايكل غوف بثّ روح السلطة وتأكيد «عدم وجود تسرّع» لبدء مفاوضات الخروج. وما أن ظهرت النتائج، حتى أعلنت رئيسة وزراء اسكتلندا نيكولا ستيرجون أنها ستطلق حملة استفتاء استقلال.