توقف المراقبون طويلا بالتحليل والتدقيق أمام أصداء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بداية من الهتاف المدوي للعديد من الناس ممن شعروا بعدم الرضا عقب قرار مغادرة الاتحاد الأوروبي.

بينما أشاد بنتيجة الاستفتاء قادة الأحزاب السياسية الأوروبية في اليمين المتطرف، ومن بينهم الزعيم الهولندي المعارض للهجرة خيرت فيلدرز، ومارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية المتطرفة في فرنسا، كون القرار مبشراً بتفكك الاتحاد الأوروبي ككل.

وبإمعان النظر بشكل أكبر في بريطانيا، أشار نايجل فراج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني، الذي وصفت ملصقات حملته آلاف اللاجئين، من ذوي البشرة غير البيضاء، تحت عنوان «نقطة الانهيار»، أشار إلى أن نتيجة الاستفتاء بأنها بمثابة انتصار «لائق» للشعب، كما لو أن الذين صوتوا بنسبة 48%لصالح البقاء، كانوا، بطريقة ما، يواجهون تحدياً أخلاقياً.

وأخيراً، لن تحظى شريحة حزب المحافظين الحاكم، التي تكن العداء لأوروبا بالصيت السابق. إذ صرح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بأنه يعتزم التنحي من منصبه، مما يترك فراغاً في القيادة خلال هذا الوقت الحرج. وقد ابتهج بوريس جونسون عمدة لندن السابق الطموح، بعد أن غير اتجاهه، بشكل بارع، من الدفاع عن سلامة الوضع في العاصمة لندن، كمركز عالمي للخدمات المالية، وذلك إبان شغله منصب عمدة لندن، إلى المساعدة في تدبير أكبر تهديد للوضع ذاته، وذلك كونه زعيم حملة مغادرة الاتحاد الأوروبي.

لدى اسكتلندا، التي صوتت أغلبيتها الساحقة لصالح البقاء في أوروبا، حجة أفضل حالياً، يمكن أن تحقق انفصالها عن بقية أرجاء بريطانيا. وفي حين يقاسي الجنيه الاسترليني انهياراً حراً، يبزغ الركود كتهديد، فضلاً عن أن تفكك المزيد من الدول عن الاتحاد الأوروبي، أو إعادة تقويمها، بشكل صرف، وفقاً للشروط الألمانية والفرنسية، يظهر كأمر مرجح أكثر.

لا يمكن إرسال أي إشارة أفضل لذلك الاتجاه العالمي نحو الانعزالية والانكماش السياسي والاجتماعي، ربما باستثناء تحقيق دونالد ترامب فوزاً ساحقاً في وقت لاحق من العام الجاري.

لقد كان نمط التصويت في الاستفتاء، إن لم تكن نتيجته، أمراً يمكن التنبؤ به، كلياً، وذلك بعد أن بنت إحدى الحملات جزءاً كبيراً منها على مسألة الهجرة. فقد وجد ناخبو حزب العمال من الطبقة العاملة بشمال انجلترا، ممن يشعرون بالقلق إزاء الضغط على الخدمات المحلية، واقتطاع الأجور بسبب العمالة الأوروبية الرخيصة، وجدوا أرضية مشتركة مع الطبقات المتوسطة في المقاطعات، ممن ناضلوا ثقافياً مع تدفق الأوروبيين الشرقيين بموجب اتفاقيات الاتحاد الأوروبي لحرية التنقل.

اختار العديد من كبار السن التصويت لمغادرة بريطانيا الاتحاد، لخوفهم من ضغوط الهجرة على الخدمات الصحية. بيد أن تمويل تلك الخدمات الصحية نفسها يتطلب عائدات ضرائب صحية، واقتصاداً قوياً. بالتالي يعتمد تطبيق الخدمة، بشكل كبير، على العمالة الرخيصة والشابة، من النوع الذي سيكون محدودًا بسبب القيود المفروضة على الهجرة.

كما يقر مؤيدو رحيل بريطانيا عن أوروبا بأن البلاد في خضم مرحلة عاصفة. إذ سيستمر هروب رؤوس الأموال، ناهيك عن أن انكماش الاقتصاد أمر محتوم، مما يترك ثقباً أسود في الموارد المالية للدولة، يتطلب إما إجراء تدابير تقشفية، أو زيادة الضرائب، أو مزيجاً مهلكاً من الإجراءين.

وفي حال وجود شركة أجنبية تسعى للاستفادة من الوضع في بريطانيا، باعتبارها بوابة ناطقة باللغة الإنجليزية بالنسبة إلى السوق الأوروبية الأوسع نطاقاً، هل ستسعى الشركة لإنشاء مصنعها هناك، أو أنها ستعمد للبيع بالتجزئة هناك؟

لقد تم الإيضاح، سابقاً، أن مؤيدي انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي يعتقدون، كما يبدو، أن الثقل الاقتصادي والسياسي الطبيعي لبريطانيا سيعمل على انتقاء مجموعة جديدة ومفيدة من العلاقات التجارية والاستراتيجية. لكن بريطانيا لم تعد امبراطورية، بل أنها، على وجه التحديد، ليست قاعدة تصنيع عالمية نشيطة، بعد الآن. فأكثر من 40%من تجارتها هي مع أوروبا نفسها التي عملت على الطلاق معها، بشكل قاطع.

تعتبر الخدمات المالية أحد أكبر القطاعات المصدرة في بريطانيا، وسيضع التصويت ذلك القطاع، وبشكل مباشر، في المرمى الانتقامي للاتحاد الأوروبي، ولانتهاز وول ستريت.

مكانة أوروبا

بالكاد قدمت أوروبا نفسها كبناء متماسك ومنظم بشكل جيد، وذلك فيما يتعلق بالنواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الآونة الأخيرة. فقد فشلت بشكل ذريع في مواجهة التحديات التي تثيرها «سياستها الواحدة التي تناسب الجميع» .

لقد أصبحت أوروبا غير ديمقراطية، وينظر لقيادتها بكونهم انعزاليين ونخبويين، فضلاً عن إخفاقها في إيصال الفوائد ليس فقط بالنسبة إلى الدول الأعضاء، بل أيضاً بالنسبة إلى إيجاد أوروبا قوية في سياق الشؤون العالمية.

لن يؤثر قرار مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي على وضع بريطانيا في العالم وحسب، بل يمكن أن يقلل أيضاً من مكانة أوروبا السياسية والاستراتيجية.