وفقا لتسلسل الأحداث في التاريخ الحديث، فإن محاولة الانقلاب الأخيرة في تركيا كانت متأخرة عن موعدها حوالي عقد من الزمن، فخلال الجزء الأكبر من السنوات الأربعين بدءا من عام 1960، أطاح الجيش التركي بحكومات لم يرغب بها بمعدل حكومة واحدة في كل عقد. وأوجدت الفترة الفاصلة التي تمتد لـ20 عاما تقريبا، بين التدخل العسكري في عام 1997 والانقلاب الأخير، انطباعاً لدى الكثيرين في تركيا والغرب بأن عصر الانقلابات قد ولى.
ولهذا السبب كان الأمر مباغتاً لكثيرين عندما ظهرت الدبابات في شوارع إسطنبول، واندفعت الطائرات النفاثة المقاتلة بسرعة البرق عبر السماء. بدا الأمر لمن يشعر بالحنين لعصر آخر، عندما صورت هيئة الأركان العامة للجيش نفسها على أنها حصن ضد تجاوزات القادة المدنيين في تركيا، أن الجيش عاد أخيرا إلى شكله القديم ويعيد ضبط الحياة السياسية التركية.
لكن لم يكن مقدرا له ذلك. فأردوغان أعاد السيطرة على زمام الأمور. وما وراء عدم كفاءة المتآمرين الذين فشلوا في إلقاء القبض على الرئيس ورئيس الوزراء كانت هناك ثلاثة أسباب ذات صلة تشرح لماذا كانت الغلبة لأردوغان وحزب العدالة والتنمية.
مجتمع أكثر تعقيداً
أولا، تركيا تغيرت منذ أن كانت الانقلابات سمة روتينية من سمات السياسة في البلاد. في العصور السابقة، كان بإمكان الجيش تخويف معارضيه بسهولة وحشرهم للتمسك بالعلمانية ومبادئ مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك. لكن تركيا أصبحت مجتمعا أكثر تعقيدا وحزب العدالة والتنمية سعى إلى دمجها بالعالم، ولم يعد الإذعان للأتاتوركية يحقق نجاحا.
في عام 1997، رحب العديد من الأتراك بالتدخل العسكري الرامي إلى تقويض تجربة تركيا الأولى مع حكومة يقودها إسلاميون. وعندما سعى الجيش بعد ذلك بعشرة أعوام لمنع احد مؤسسي حزب العدالة والتنمية، عبدالله غول، من أن يصبح رئيسا، احتج الأتراك معلنين انهم لا يرغبون بالنزعة الدينية ولا بالحكم العسكري. لكن الاحتجاجات التي انطلقت عام 2007، والتي وضعت الجيش في موقف دفاعي، وساعدت في تمهيد الطريق لرئاسة غول، شكلت دلالة على أن الأتراك لن يخضعوا بعد الآن لسلطة الجيش.
ثانيا، نجحت الانقلابات السابقة لأنها حظيت بدعم كبير من المدنيين. عندما خرجت الدبابات باتجاه الجمعية الوطنية الكبرى ورئاسة الوزراء في 12 سبتمبر 1980، تنفس الأتراك الصعداء لأن الجيش وعد بوضع حد للعنف بين القوى اليمينية واليسارية الذي حصد ألوف الأرواح. وكان تدخل الجيش في عام 1997 والذي يسمى أحيانا بـ «الانقلاب الأبيض»، تتويجا لجهود الجيش في التعاون مع المنظمات النسائية، والأكاديميين والنخب العالمية ووسائل الإعلام والشركات الكبرى، من أجل زعزعة الاستقرار ونزع الشرعية عن حكومة ائتلافية، تحت قيادة حزب إسلامي سينبثق منه حزب العدالة والتنمية.
دعم شعبي محدود
وفي المقابل، كان الفصيل الذي سعى لقلب الحكومة، أخيراً، يحظى بدعم شعبي قليل. وعندما دعا رئيس الوزراء يلدريم، ومن بعده أردوغان، الأتراك للتصدي لـ«التمرد»، وعندما استجاب أنصارهما وبعض المنتقدين، لم يكن الأمر إلا مسألة وقت قبل أن تستعيد الحكومة اليد العليا، فالتدخل العسكري في السياسة اصبح إهانة للأتراك ونظرتهم لأنفسهم.
ثالثا وأخيرا، كان مقدرا أن يفشل الانقلاب بسبب أردوغان وما يمثله لناخبيه، وما قام به منذ وصوله إلى السلطة. صحيح أنه، على مدى السنوات العديدة الماضية، صعدت تركيا تصديها للصحافيين، وسعى حزب العدالة والتنمية إلى إعادة تشكيل السلطة القضائية، وتم أضعاف الضوابط والتوازنات على السلطة التنفيذية غير أن هذا النهج لم يستمل ناخبي الرئيس لدعم الإطاحة به. وأخطأ مدبرو الانقلاب في حساباتهم بأن استعراض قوتهم سوف يخيف أنصار أردوغان.
توقعات
عندما وقع الانقلاب نزل الأتراك إلى الشوارع، وقاموا باجتياح الدبابات، واعتقلوا الجنود حتى تتمكن الشرطة التركية من القبض عليهم.
ونجا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتم تصوير التدخل الفاشل بأنه اعتداء على الديمقراطية التركية، لكنه يبدو أن هناك شيئا آخر في خاطره. فقد أعلن عند وصوله إلى إسطنبول أن الانقلاب «سوف يساعدنا في المطالبة بجيشنا من أعضاء هذه العصابة»، مشيرا إلى اتباع رجل الدين المنفي فتح الله غولن، الذين كان شريكا لحزب العدالة والتنمية فيما مضى، وأصبح عدو أردوغان في الآونة الأخيرة. آثار الانقلاب باتت واضحة، سوف يعمل حزب العدالة والتنمية الآن على التدقيق مع المعارضين الحقيقيين والمتوهمين.