يمتلئ تاريخ الحياة السياسية التركية بانقلابات ومحاولات انقلابية كثيرة حدثت بفواصل عشر سنوات تقريبا. ويكاد هذا يكون خللا جينيا. واختبرت الديمقراطية التركية أول انقلاب عليها في عام 1960، عندما دخلت بالكاد عامها العاشر، بقيادة مجموعة من «الضباط الشبان» اليساريين.
وأرجعت السلطة الإدارية إلى المدنيين عام 1961، عقب الإتيان على حياة رئيس الوزراء عدنان مندريس ووزير الشؤون الخارجية فاتن روستو زورلو، ووزير المالية حسن بولتكان.
وجرى التدخل العسكري الثاني عام 1971 ضد حكومة سليمان ديميريل، من خلال «انقلاب المذكرة». وأصدر الجيش إلى رئيس الوزراء إنذارا دعا فيه إلى التنحي جانبا وأن يحل محله مجلس وزراء تكنوقراطي.
تدخل عسكري
عقب أقل من عشر سنوات من ذلك، ووسط العنف المستشري بين جماعات اليمين واليسار المتطرف، أقدم القادة العسكريون على تدخل جديد. وكان هذا التدخل أكثر دموية مقارنة مع التدخلين السابقين.
ومن المفاجئ أن تركيا خرقت نموذج التدخلات العسكرية بفارق عشر سنوات. وتواصلت السلطة المدنية حتى عام 1997، عندما وقع ما أطلق عليه «انقلاب ما بعد الحداثة». ودفع الجيش بقافلة من الدبابات إلى شوارع أنقرة، كرر انقلاب عام 1971، وطالب باستقالة الحكومة الائتلافية بقيادة نجم الدين أربكان.
وحدث الانقلاب التالي بعد عشر سنوات في أبريل من عام 2007، عندما أطلق رئيس الأركان «انقلابا إلكترونيا»، من خلال وضع مجموعة من الطلبات على موقع هيئة الأركان. وجاء الانقلاب رد فعل ضد قائمة طويلة من الإصلاحات الديمقراطية، التي أدخلت كجزء من الأجندة المؤيدة لأوروبا، ونظر إليها باعتبارها ابتعادا عن العلمانية الشديدة. وعلى الرغم من ذلك فإن حزب العدالة والتنمية بقيادة رئيس تركيا الحالي رجب طيب أردوغان صمد بنجاح ضد «الانقلاب الإلكتروني».
وعزيت أخر محاولة انقلاب، والتي وقعت في الخامس عشر من يوليو الحالي، إلى جناح كبير من الغولنيين داخل المؤسسة العسكرية والقضاء التف حول التسلسل القيادي، واحتجز أعضاء القيادة العليا رهائن.
وحمل الغولنيون، الذين كانوا في السابق حلفاء لأردوغان، المسؤولية عن فضيحة الفساد التي وقعت في ديسمبر من عام 2013، والتي شملت العديد من المسؤولين الحكوميين، وأعضاء الدائرة المقربة من أردوغان. ومنذ ذلك الحين دار صراع على السلطة بين كل من اردوغان وغولن.
ويرجع الفضل في هزيمة الانقلاب إلى الشعب التركي، الذي استجاب لدعوة أردوغان لمقاومة هذا التدخل «بأي وسيلة ممكنة وضرورية». واحتشد في الميادين، وحفلت التقارير التلفزيونية بمواجهات مباشرة بين المدنيين والجنود المسلحين على الجسرين الذين يربطان الجانبين الآسيوي والأوروبي من استانبول.
ورغم ذلك، كان هناك عدد كبير من الضحايا بسبب فتح النيران، من جانب المتمردين، لا سيما خلال الهجمات المتصاعدة على مبنى البرلمان بالإضافة إلى مقر قيادة هيئة الأركان.
ويحتاج اردوغان إلى أن يرتقي فوق فهم الأغلبية للديمقراطية. وأن يكون منصفا مع تطلع الجمهور الذي استجاب لدعوته من خلال التدفق إلى الشوارع والميادين لمواجهة المحاولة الانقلابية.
الاتجاه الصحيح
ويعتبر هذا أقل ما يستحقه الجمهور التركي. وقد تكون هذه خطوة في الاتجاه الصحيح بالنسبة لجيران تركيا، الذين يحتاجون إلى مهلة من اضطراب الحرب في سوريا، وعدم الاستقرار في العراق، وطموحات روسيا الإقليمية والآن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. هذه هي اللحظة التي تحتاج فيها تركيا مستقرة وديمقراطية وشفافة ومسؤولة ومزدهرة إلى البروز على الساحة العالمية. وتحتاج الولايات المتحدة إليها أيضا.
وبقدر ما أعلن البيت الأبيض من ثقته بقوة ديمقراطية تركيا ودعمه للقيادة المنتخبة، فإن هناك فرصة واضحة لتعاون أوثق بين البلدين. وتتمثل الخطوة الأولى في جلب الضالعين في الانقلاب إلى ساحة العدالة، وتلي ذلك إجراءات لتحسين قدرة تركيا على معالجة وإدارة التحديات الكثيرة التي تواجهها مع جيرانها.
ضربة قاسية
من المؤكد أن ديمقراطية تركيا تلقت ضربة قاسية. ولم يدعمها إلا الموقف الجماعي لقادة المعارضة والإعلام الذي وقف ضد الانقلاب. ومجددا، تمكنت تركيا من كسر نموذج الانقلاب مرة كل عشر سنوات. ويقدم هذا للبلاد فرصة لا مثيل لها للمصالحة.
وإحباط أردوغان حيال المسؤولين عن الانقلاب هو أمر مفهوم. وكان على حق عندما دعا إلى «معاقبتهم بموجب القوة الكاملة للقانون». وسيكون من الصعب الآن ضمان أن سيادة القانون سترتقي إلى مستوى التحدي للفوز بالقلوب والعقول على امتداد البلاد التي يوجد بها استقطاب كبير وهو لديه الأدوات اللازمة لذلك وقد استخدمها بنجاح في الفترة ما بين عامي 2003 و 2011.