يعمد القادة الأتراك إلى طمأنة الجميع بأن حالة الطوارئ التي اعتمدها البرلمان تهدف إلى السيطرة على الوضع والحفاظ على الديمقراطية التركية. لكن العديد من المراقبين يواصلون مناقشة ذلك. وعواقب احتمال انجراف تركيا بعيداً عن الديمقراطية يمكن أن تصبح تحدياً جيوسياسياً حقيقياً للغرب.
تركيا تعتبر الجسر بين أوروبا وآسيا بالمعنى الحرفي للكلمة، وتبدو أنها لا تتسم بالوضوح تماما فيما يتعلق بقضايا الحكم. من جهة، يعبر قادتها عن التزامهم بالنموذج الغربي القائم على حكم القانون والديمقراطية الليبرالية والشفافية والمساءلة. ومن جهة أخرى، يرفضون في بعض الأحيان ما يرونه تدخلاً خارجياً، ويدعمون دوراً كبيراً للدولة في الاقتصاد.
وعلى الرغم من الترحيب بتركيا داخل حلف شمالي الأطلسي وغيرها من المؤسسات عابرة للأطلسي بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن التزامها بالقيم الديمقراطية كان موضع متابعة من المراقبين. وكان ظل الجيش يلوح فوق السياسة التركية بشكل ينطوي على تهديد، وكان سجل البلاد الخاص بحقوق الإنسان ضعيفاً، لا سيما فيما يتعلق بحقوق الأقليات.
وقد اعتقد كثيرون أن كل هذا سوف يتغير عندما جاء أردوغان وحزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، إذ جرى إدخال إصلاحات سياسية دفعت تركيا نحو عضوية الاتحاد الأوروبي، فيما حقق الاقتصاد التركي تقدماً مبهراً. كما تمتعت تركيا بقوة ناعمة كبيرة في المنطقة والعالم، وغالبا ما تم وصفها في أعقاب انتفاضة الربيع العربي بأنها نموذج بلاد زاوجت بين الإسلام والحكم الديمقراطي. ولم يكن أي من هذا ممكناً لولا التزام تركيا المتزايد بمعايير الحوكمة الغربية وعضويتها في المجتمع عبر الأطلسي.
صورة مختلفة
لكن الصورة أصبحت منذ ذلك الحين مختلفة، وجددت الأحداث الأخيرة المخاوف بشأن الأوضاع التركية، لكن هذه المخاوف كانت في ازدياد منذ سنوات في واقع الحال. فالتزام تركيا بدعم حرية التعبير وحرية الإعلام وجهود مكافحة الفساد والأسواق الليبرالية كان في دائرة المتابعة منذ بعض الوقت. وفي غضون ذلك، توقفت عجلة الاقتصاد، ويعود ذلك في جانب منه إلى التطورات السياسية وموجة الهجمات الإرهابية الأخيرة التي أضرت بشكل خطير بالوضع الأمني العام. فليس من المستغرب أن يكون نصيب الفرد من الدخل الذي بلغ في ذروته 10800 دولار في عام 2013، تراجع إلى مستويات عام 2009 عند 9950 دولاراً (وهو ما يوازي هبوطاً نسبته 10% في غضون سنتين فقط).
إذا سألت أردوغان وحزب العدالة والتنمية عن وضعية الإصلاحات، فإنهم على الأرجح سيجيبون بنظريات المؤامرة: يلومون الغرب، والاتحاد الأوروبي وجماعات سعر الفائدة، وغيرهم.
أسئلة مطروحة
وإذا بدت تركيا وكأنها تتحرك بعيدا عن المعايير الغربية، فهل هي تتحرك بعيدا أيضا عن الغرب؟ ربما. في نوفمبر 2013، سعى أردوغان، بعد سنوات من مباحثات متقطعة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، للحصول على دعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لقبول تركيا ضمن المنظمات الآسيوية مثل «منظمة شنغهاي». ويمكن أن يشكل هذا الأمر مكسباً جيواستراتيجياً كبيراً لروسيا.
وستكون أوروبا الغربية والولايات المتحدة أكبر الخاسرين إذا ما تقربت تركيا من المعسكر الروسي. وسوف توجه خسارة الشراكة مع تركيا ضربة جدية لجهود القتال ضد تنظيم «داعش» في سوريا والعراق من جهة، لكنها أيضا سوف تزيد احتمال ابتعاد تركيا عن التبني الفعلي للديمقراطية على الطريقة الغربية.
هل هناك دور للولايات المتحدة في كل هذا؟ في الأجل القصير، كما قال عمر تاسبينار، يجب أن تقدم الولايات المتحدة مساعدة فعلية إلى أنقرة في عملية التحقيق بدور فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا وحركته في محاولة الانقلاب الأخيرة. عملية تسليمه إلى تركيا تعتبر قضية حساسة للغاية، ويجب أن تدافع الولايات المتحدة عن معاييرها القانونية. لكن هذا النوع من التعاون يمكنه بناء الثقة في العلاقات التركية الأميركية، ويهدئ قلق تركيا حول أي دور للولايات المتحدة محتمل في محاولة الانقلاب، ويساعد الولايات المتحدة في بناء المصداقية في سيادة القانون.
حذر
التحقيق الشامل أمر مهم لتحديد من كان وراء محاولة الانقلاب. ويصب في مصلحة الولايات المتحدة معرفة ذلك، حيث إن تركيا عضو في «ناتو»، وأي تهديد ضدها ينبغي اعتباره تهديداً لجميع أعضائه. وليس من مصلحة أي عضو في حلف شمالي الأطلسي السماح بزلزال سياسي مثل هذا لدفع تركيا للخروج من صفوفه .
وهذا لا يعني التقليل من شأن العبء الملقى على كاهل أنقرة: يجب أن لا تنسى الحكومة التركية أن احترامها للحريات المدنية وسيادة القانون ساعدها على أن تكسب الكثير من الاحترام الدولي ومكانة في المجتمع الغربي. لكن لتستعيد تركيا تلك المكاسب، فإنه سيكون على قيادتها أن تمضي قدماً بحذر شديد وبتعقل.