على مجرى نهر بردى الذي قامت على ضفافه أقدم عاصمة في التاريخ، وعند أسفل سفح قاسيون، ذاك الجبل الشاهد على تحولات السياسة في دمشق، ثمة قلعة حصينة من قلاع النظام السوري.
في ساحة الأمويين، يرزح مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بجيوش موظفيه الستة آلاف ونيف تحت وطأة حراسة أمنية مكثفة لا تنقطع طيلة اليوم من جهاته الأربع. وعلى بعد خطوات قليلة منه تقبع رئاسة هيئة الأركان، ويفصله شارع عن منزل الرئيس بشار الأسد.
يكتسب هذا المبنى أهمية استثنائية في معركة بقاء النظام المفتوحة على كل الصعد بعد خطاب الاسد الاخير من إحدى قاعات جامعة دمشق. فبحسب مسار الأزمة منذ بدء الاحتجاجات، يبدو ان النظام السوري يخوض المعركة على جبهتين لا تقل إحداهما أهمية عن الاخرى.
الأولى أمنية تستهدف وأد الحركة الاحتجاجية بطريقة عرضته لعزلة وعقوبات أوروبية وأميركية طالت رأس النظام، والثانية إعلامية عبر وقف تدفق صور وأخبار الأنشطة الاحتجاجية التي تشهدها البلاد من جهة، والتشكيك بالرواية التي تبثها وسائل الإعلام العربية والأجنبية بشأن ما تشهده البلاد من جهة أخرى.
ويقول الكاتب والمعارض السوري ياسين حاج صالح إن «الجهاز الإعلامي السوري هو واحد من جهازين استراتيجيين بناهما الأسد الأب ولا يقبلان الإصلاح. الجهاز الثاني هو الأمن، ووظيفته إنتاج الخوف ونشره في المجال العام وحماية النظام. أما الإعلام فوظيفته إنتاج الكذب ونشره في المجال العام وعبادة النظام، أو الرئيس تحديدا».
ويبدو أن حصيلة أربعة عقود من هذه الاستراتيجية بشقها الإعلامي شرعت في الانهيار منذ بدء الاحتجاجات من مدينة درعا في منتصف مارس الماضي، وتناقل أول صور لتحطيم تماثيل الأسد الأب والابن عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومنها لوسائل الإعلام.
وكشفت الكثير من التصريحات التي صدرت عن مسؤولين سوريين منذ بدء الأزمة عن اعتقادهم بأن سبب تمدد الاحتجاجات أفقياً وعمودياً هو التغطية الإعلامية التي هزت «أعمدة الخوف في مملكة الصمت» على حد تعبير أحد المعارضين السوريين، مزلزلة قناعة الرئيس الأسد بأن شعبه لن يثور عليه لاعتبارات اسهب في شرحها لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية.
ويرى الحاج صالح أن النظام منزعج جدا لخسارته المعركة الإعلامية، ويعيد ذلك إلى كسر وسائل الاتصال الحديثة احتكار النظام سمع وأبصار محكوميه، واستطاعة السوريين تحقيق ربط وثيق بين النشاط الاحتجاجي الميداني وبين تغطيته الإعلامية الفورية.
ونُقل عن الرئيس السوري قوله لوفد أهالي حي جوبر قبل أسابيع بأنه لا يعتب على المتظاهرين وإنما على من يقوم بتصوير الاحتجاجات وبثها، كما تطرق للموضوع في خطابه الاخير بالقول بأن ما عثر عليه من اجهزة اتصال متطورة مع من يقومون بالتصوير تشكل دليلاً دامغا على تأكيد «نظرية المؤامرة» التي يفسر بها ما تشهده البلاد.
بلا شهود
ويرى ياسين أن «عتب» النظام مرده «تفضيله قتل السوريين دون أن يشهدوا عليه، ودون أن يشهد عليه العالم». ولا تشير ما تبثه وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية إلى أي تغير في طريقة التعاطي مع أزمة الاحتجاجات المتصاعدة.
ولا يزال خطاب المنابر الرسمية تتهم المتظاهرين بالمندسين والمتآمرين والإرهابيين والمخربين، وفي احسن الاحوال «المغرر بهم». بينما تُتهم الفضائيات التي تغطي الاحتجاجات بأنها قنوات «فتنة» تعمل على «إذكاء الاضطرابات» خدمة لأهداف غابت منذ أمد بعيد عن الخطاب الإعلامي السوري، منها «العثمانيون الجدد» و«الاستعمار» و«سايكس بيكو»، بالإضافة بالطبع للحاضر الدائم في الأدبيات البعثية «العدو الصهيوني».
وتقول إحدى المذيعات العاملات في التلفزيون السوري مشترطة عدم الكشف عن اسمها بأن أروقة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون باتت تشهد تشدداً كبيراً، ولم يعد ثمة مكان للرأي الآخر حتى في إطار النقاشات التي تتم لإعداد النشرات والبرامج.
ولا تخفي المذيعة التي أمضت ما يربو على عقد في هذه المؤسسة بأن بعض العاملين في التلفزيون تم استدعاؤهم من قبل أجهزة أمنية بسبب بعض التصريحات التي أدلوا بها أو تعليقات كتبوها على موقع فيسبوك.
وفي المقابل، تتيح المتابعة لما تبثه مواقع التواصل الاجتماعي مثل: فيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرها ملاحظة الازدياد المطرد في أعداد الناشطين السوريين الذين يبثون أخبارهم وصورهم عبر الشبكة العنكبوتية، وأن ثمة حالة عالية من التنسيق بين هؤلاء ونظرائهم في الخارج لإيصال هذه الصور لأكبر قدر ممكن من الفضائيات وبأكثر من لغة، وذلك رغم الحملة الأمنية المكثفة التي طالت العديد منهم.
ويؤكد أحد المعتقلين أنه تعرض لتعذيب شديد خلال التحقيق، قبل أن يطلق سراحه لاحقاً ويستطيع الفرار إلى تركيا، حاله كحال عشرات الناشطين الآخرين الذين يختبئون حالياً في لبنان أيضاً، فيما استطاع عدد محدود منهم الوصول إلى بعض الدول الأوروبية.
تهافت إعلامي
وتتلقف الفضائيات العربية والأجنبية ما يبثه هؤلاء الناشطون بفارغ الصبر بعد منع السلطات السورية دخول مراسلي هذه الفضائيات إلى البلاد لتغطية أخبار الاحتجاجات الدامية التي تتصدر عناوين الاخبار منذ شهور.
وتم اعتقال وتعذيب بعض هؤلاء المراسلين الذي استطاعوا التسلل إلى البلاد، أو كانوا على وشك الدخول، كما حدث مع مراسلة «الجزيرة أنترناشينال» دوروثي بارافاز، ومراسل وكالة «رويترز» سليمان الخالدي، ومراسل «لوموند» الفرنسية الجزائري خالد سيد محند، ومراسل «العربية نت» محمد زيد مستو، والقائمة تطول.
ولا يتوقف الأمر عند منع دخول المراسلين واعتقالهم فحسب، إذ منذ بدء الاحتجاجات قيّدت السلطات السورية حركة المراسلين المعتمدين لديها، رغم أن البعض منهم يعمل منذ عقود، وتجدد بطاقة اعتماده الصحفية بناء على موافقات أمنية تتطلب تدقيقاً كبيراً.
وتم منذ بداية الأزمة طرد مراسل «رويترز» الاردني خالد عويس بدعوى عدم مهنيته في تغطيته للاحداث، فيما غادر بعض المراسلين السوريين البلاد على وجه السرعة بعد انحيازهم لمطالب المحتجين، كمراسلة موقع «إيلاف» بهية مارديني ومراسل صحيفة «الجزيرة» السعودية عبدالكريم العفنان.
ويقول العفنان بأنه لا يفكر في العودة إلى سوريا حالياً، وأنه يشعر بخوف حقيقي إزاء الاحداث ، وذلك بعدما رأى بعينه الطريقة التي عومل بها المحتجون في أكثر من مكان.
تذمر واستقالات
ورغم تماسك المؤسسات الإعلامية الرسمية الظاهر، أقله حتى اليوم، إلا أن تذمراً لا يخفى بدأ يدب في أرجائها، يمكن تلمسه من بعض الاستقالات التي جرت على خلفية مواقف هذا الإعلام من الاحتجاجات، كإياد عيسى من صحيفة تشرين وفرحان مطر من الفضائية السورية.
مطر برر استقالته من عمله كمعد للبرامج باتهام «قوات الامن والشبيحة بارتكاب المجازر بحق الشعب السوري.. وقيامهم مع بعض عناصر الجيش باغتصاب النساء» على حد قوله.
ودأب الإعلام السوري منذ بدء الاحتجاجات على نفي صحة هذه الاتهامات، إلا أن مطر اتهم التلفزيون في حديثه بعد استقالته بالكذب والتزوير والتضليل والفبركة والتجييش الاعمى ضد الشعب ومطالبه بالحرية والكرامة وتغطيته المستمرة وتبريره لجرائم النظام.
ويعتقد كثر بأنه طالما ظل الخيار الأمني هو المعتمد في مواجهة الاحتجاجات التي تطالب بالحرية وإسقاط النظام، فإن خطاب النظام الإعلامي سيبقى على حاله كـ«ثكنة متقدمة» في هذه المعركة إن صح التعبير.
ويقول ياسين حاج صالح بأن «النظام لا يملك إلا الإنكار من جهة، والتحريض من جهة ثانية، وبأن سياسة القوة الدامية التي يعتمدها على الأرض تقتضي خطاب إنكار مطلق يسوغها، وخطاب تحريض يشد من عصب قاعدته الاجتماعية».