لمشاهدة الغرافيك بالحجم الطبيعي اضغط هنا
لن يكمل عامه هذا، كل شيء يشير إلى أنّ الفريق سلفاكير ميارديت لم يعد راغباً في البقاء لأنّ كل الغربيين الذين أتوا إلى هنا نصحوه بترك الحكم.
سألوه: هل تريد أن تكون حاكماً متسلّطاً تقتل أبناء شعبك؟ هل لأجل هذا ثرت على حكام الخرطوم؟ بهذه العبارات تحدث مسؤول رفيع في حكومة جنوب السودان إلى نظيره السوداني الأسبوع الماضي، غير أن قبريال شيرشيو وهو صحافي جنوبي مقيم في الولايات المتحدة كتب على مدونته أن كير سيذهب فقط لأن حلمه لم يتحقق، فهو لم يكن يحلم بدولة دينكا التي تتحقق الآن، إنما بدولة جنوب السودان التي قتلها مشار (في إشارة إلى نائب سلفاكير د. رياك مشار الذي يقود تمرداً عليه).
منذ أربع سنوات ووضع الجنوبيين يتقلّب بين كفتي الرحى، الأولى بالاستمرار في الحرب إلى ما لا نهاية.. أو وضع البندقية على الأرض والذهاب إلى دفع استحقاقات العملية السلمية التي ربما تطيح بعديد قيادات لم يعد بقاؤها في واجهة الحكم مرغوباً في البلد المولود حديثاً ليتربع بسرعة الصاروخ على صدر قائمة الفاشلين.
فبموت د. جون قرنق تصلّبت شرايين الحركة الشعبية وتاهت بين صراعات الطامحين ونكبات السياسيين وأطماع الآخرين في الجلوس على كرسي الرئاسة لتتفرّق إلى مذاهب شتى، وفاضت عمليات الخروج من الباب مباشرة لعدد من القيادات التاريخية، بعضها عاد لاحقاً.. والبعض ما زال يرتوي من ماء الابتعاد بعد موت الزعيم.
واقع ومعاناة
واقع جنوب السودان اليوم يتحدث عن معاناة لامتناهية منذ العام 1955 في السودان الموحّد منذ انطلاق الطلقة الأولى في توريت، حتى انتهت أطول حرب أهلية في إفريقيا بين شد وجذب بالتوقيع على اتفاقية «السلام الشامل» في «نيفاشا» بنيروبي في 9 يناير2005 لتنفصل دولة جنوب السودان بكل أمراضها عام 2011 بعد التصويت بأكثر من 90% لصالح بناء الدولة المستقلة، لتبدأ مرحلة جديدة من المعاناة بسبب التمرّد المسلح الذي قاده زعيم قبيلة النوير ثاني أكبر قبائل جنوب السودان وفشل جهود المصالحة الإفريقية والدولية.
ويرى المحلل السياسي النور ييل أن التركيبة الاجتماعية للقوميات الجنوبسودانية هي «لب الأزمة» لأنها تتكون من مجموعات أولية معقّدة، عبارة عن 64 قومية تتوزع في 10 ولايات وثلاثة أقاليم هي قبائل حرفتها الأساسية الرعي وتصل نسبة الأمية فيها إلى ما يقارب 90% وولاؤهم الأكبر لقياداتهم داخل منظومة الدولة والحزب وللقيادة الأهلية «السلاطين».
وبالتالي نجد أن الثورة التي يراها أبناء النوير تدور الآن على الرئيس سلفاكير، هي عند آخرين في الجنوب تصفية حسابات قديمة يعود تاريخها إلى ثمانينيات القرن الماضي، لتنتقل حمى الخلافات والانشقاقات السياسية إلى المجتمع الجنوبي نفسه، وتنتقل حمى الخلافات إلى المجتمع بمختلف أطيافه، وباتت الحرب أقرب إلى صراع قبلي مخفي تحت ستار الخلاف السياسي المثقل بالفواتير القديمة.
ويضيف ييل أن دولة الجنوب استقلت وفي جعبتها أكثر من 19 حزباً سياسياً أكبرها الحركة الشعبية لتحرير السودان الحاكمة والمتحكمة في مفاصل الدولة غير أنها تشرذمت حالياً إلى ثلاث كتل رئيسية هي جناح الحكومة بقيادة الرئيس الحالي سلفاكير ميارديت وجناح المعارضة بقيادة النائب الأسبق وقائد التمرد رياك مشار وجناح المعتقلين السابقين بقيادة الأمين العام باقان أموم.
ومنذ إعلان انفصال جنوب السودان، بانت ملامح مستقبله الدموي وفق معضلة استيعاب المجموعات الإثنية المختلفة في الأجهزة الدولة، ومع تلك المعضلات الواضحة التي قرر كثير من «المنظرين» إقصاءها بحجة أن تجربة الجنوبيين إبان الفترة الانتقالية كافية لقيادة وبناء دولة جديدة، لتعود الحرب سريعاً مطلة برأسها وتأبّطت روايات يحكيها الجنوبيون عن أنفسهم إبان ما يسموه فترة النضال في الغابة والتي شهدت معارك «مكتومة» مثل التي تدور اليوم في العلن.
توقعات مبكرة
ففي العام «2010» توقعت وكالة المخابرات المركزية الأميركية «سي آي إيه» احتمالات نشوب أعمال عنف وقتل جماعي وحرب إبادة في الجنوب حال انفصاله.
وتحدثت في تقرير عن نية أبناء جيش النوير «الجيش الأبيض» في قيادة حرب ضد المورلي، ورغم اشتداد المواجهات في ذلك الوقت بين النوير والمورلي إلا أن هناك حرباً كانت تعد على نار هادئة بين قبيلتي النوير والدينكا اللتين تمثلان أكبر ثقلين قبليين في جنوب السودان. وبالفعل مضت السنوات الثلاث وجاء العام «2013»، وأحكمت الخلافات السياسية الخناق على مسرح الحرب الفعلية بين القبيلتين، وأعد كل طرف قواته وحضر أسلحته لمعركة أمرها غريب، فكل طرف فضل انتظار الآخر لإطلاق أول رصاصة للمضي فيها والانتقال إلى المواجهة، كأنما كل طرف يخشى التعرض للاتهام بافتعال الحرب، وهو ما ظل زعيم المعارضة الجنوبية يتهم به الرئيس سلفاكير.
ووصل الصراع السياسي والإثني بين الرئيس سيلفا كير ونائبه ريك مشار بأسرع مما هو متوقع إلى توصيف أكثر حروب إفريقيا توحشاً، والأكثر قساوة وحماقة في القارة وتطورت إلى حالة لا ترحم أبداً.
وتناول تقرير نشرته صحيفة «ذي تايمز» الأسبوع الماضي الأعمال الوحشية التي لا توصف ضد الأطفال والمدنيين. وذكرت الصحيفة أن أكثر من 1.5 مليون شخص أجبروا على الهرب من منازلهم، وكيف أن نصف تعداد السكان البالغ 12 مليوناً يواجهون خطر الجوع، وغالباً لا يستطيع عمال الإغاثة الوصول إليهم عبر مناطق القتال.
والأمر الذي يجعل هذه الكارثة الواقعة في جنوب السودان أكثر إثارة للذهول أن هذه الدولة كانت تعتبر نصراً للسياسة الخارجية الأميركية، فخلال الحرب الأهلية الطويلة والدموية بين الانفصاليين الجنوبيين والحكومة السودانية في الشمال، قام الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وعدد من أعضاء الكونغرس بدعم جنوب السودان الذي معظم سكانه من المسيحيين، إضافة إلى قبائل وثنية في الجنوب ضد المسلمين في الشمال.
ولعبت إدارة بوش دوراً أساسياً في المفاوضات التي أدت إلى اتفاق سلام عام 2005، نجم عنه استقلال جنوب السودان في يوليو 2005. وأصبح بوش مقرباً شخصياً من كير، غير أن أميركا نفسها وقفت حائرة أمام وحشية الصراع.
لتكمل الدولة الوليدة عامها الرابع بمحولات حثيثة يقوم بها الرئيس الكيني آهارو كنياتا لملمة أطراف الدولة المبعثرة مستفيداً من الضغوط الغربية على الأطراف لإيقاف النزاع الدامي والوصول إلى حلول تعيد للبلد استقراره.
وتمكنت محاولات كنياتا من إعادة الأمين العام باقان أموم إلى جوبا وإعادته لمنصبه الذي أقاله منه سلفاكير مع بداية التمرد، غير أنها لاتزال متعثرة مع قائد التمرد المسلح رياك مشار رغم خضوع كير للضغوط وإصدار قرار بإعادته لمنصبه كنائب أول للرئيس ولم يفلح لقاء جرى خلال الأيام الماضية في نيروبي جمع الرجلين قرابة خمس ساعات من إذابة الجليد لكن كنياتا لايزال متفائلاً في إمكان الوصول إلى حلول.
إضاءة
يقدر عدد سكان جنوب السودان بما يقارب 8 ملايين نسمة، وتتكون من عدد من القبائل الإفريقية، وهي: قبائل النيلية مثل الدينكا والنوير والشيرلوك والشلك والأشولي والجور، وقبائل نيلية حامية مثل الباريا واللاتوكا والمورلي، وقبائل سودانية بانتوية مثل الزاندي والفرتيت.
وتوجد في جنوب السودان العديد من اللغات الأفريقية المحلية، لكن اللغة العربية تستخدم على نطاق واسع. لغة التعليم والحكومة والأعمال هي الإنجليزية، وهي اللغة الرسمية.
كما توجد العديد من اللغات الإفريقية مثل الندوقو في ولاية غرب بحر الغزال والباي والقولو والسيري والبلندا.