كُتب الكثير عن كيف يُحدث صعود الشعبوية إرباكاً للوضع القائم في الغرب. ويجري استخدام الشعبوية الآن لوصف الطريقة التي تبدو فيها الدول الغربية رافضة للمعايير الليبرالية التي كانت توجه رؤيتها حتى الآن، حول الأسلوب الذي ينبغي أن يدار به العالم.
في آسيا، هناك وجهة نظر مختلفة حول هذا النقاش المحتدم حول العولمة والشعبوية. فالمجتمعات الآسيوية جنت الكثير من العولمة، لكنها أيضاً اختبرت تأثيرات سلبية كبرى، حيث ما زالت غالبية تلك المجتمعات تعاني من العديد من تداعياتها الاجتماعية والبيئية. التجربة الآسيوية مع نجاحاتها وإخفاقاتها واسعة النطاق كانت تعني أن النظرة إلى العولمة كانت دوماً بعين الشك، وأنها لم تعتبر يوماً دواءً لكل داء.
أما في الغرب، فكان ينظر إلى العولمة التي تنطوي على الأسواق المفتوحة، والتجارة الحرة، والحكومة المحدودة، وحرية حركة الأفراد، كطريقة لبناء عالم أفضل، لكن يبدو الغرب الآن رافضاً للعالم القائم على قواعده، فيما يجري الترحيب بهذه القواعد وتبنيها من قبل المتأخرين في الوصول في آسيا وأفريقيا بقدر أكبر. من التفسيرات على ذلك، هو أنه طالما كانت قواعد العولمة موضوعة من قبل الغرب.
وكانت فوائدها تتدفق بشكل غير متناسب إليه، فلم يكن هناك أي تذمر أو شكوى. لكن ما أن نما التأثير الاقتصادي لباقي العالم الذي بدأ يريد حصته المتساوية منها، أصبح العالم الغني فجأة مجبراً على إجراء تعديل وتقاسم الفوائد مع الغالبية.
حقيقة غير مريحة
هذه الحقيقة غير المريحة تشكل الحافز لما اصطلح على تسميته الشعبوية من جانب المعلقين الغربيين. اليوم، هناك الكثير من أنصاف الحقائق التي تم ابتداعها لهذا الغرض.
والتي أصبحت مصادر المعتقدات السائدة في الدوائر العالمية، مثل أن التقدم في التكنولوجيا سوف يزيد الإنتاجية ولا يؤدي إلى فقدان فرص العمل وزيادة الفوارق، عادت الآن إلى موطنها لتجثم هناك. الوعود التي لم يجر الإيفاء بها تولد خيبات الأمل. وعلى الرغم من كل التقدم في عصرنا الحديث، يعكس التفكك الزاحف داخل النظام العالمي القائم، البعيد عن الكمال، لكن النظام الأفضل الذي لدينا الآن، يتمثل باتجاهين.
أولاً، الرفض الذي طال انتظاره للمغالطات والأكاذيب، أو عدم الوفاء بالوعود، التي صاحبت الكثير من النقاشات بشأن حتمية الفوائد المفترضة للحداثة، خصوصاً كما كان يجري عرضها من خلال عدسة التجربة التاريخية للغرب على مدى الـ 100 العام الماضية. ثانياً، إظهار كيف أصبحت المجتمعات حول العالم غير قادرة بشكل متزايد على التعامل مع «اعتداء الحداثة».
والذي يجري في كثير من الأحيان، بمساعدة وتحريض من خلال الخطوات الكبيرة المحققة في مجال الابتكار التكنولوجي. والأمر المثير للاهتمام هو أنه، حتى الآن، كان التعبير عن رفض الحداثة، وما تمثله من أنظمة الحكم الغربية، وخيارات نمط الحياة، والتكلفة المجتمعية لإحلال التكنولوجيا مكان العمالة، يجري فقط عن طريق إظهار مشاعر الاستياء داخل العالم غير الغربي، وبالتالي يجري شطبه.
الآن، فإن هذا الاستياء يُعبر عنه أيضاً في الغرب نفسه. ومثل هذه الانتفاضة الشعبية تأتي بمثابة مفاجأة فقط للنخب الغربية، لأن هذه النخب كانت تنفي لفترة طويلة العواقب المأساوية لنهجها ضيق الأفق.
فعلى سبيل المثال، أدت محاولات تعزيز الديمقراطية على النمط الغربي في الشرق الأوسط إلى اندلاع الحروب وأزمة الهجرة، فيما أخفقت إلى حد كبير في زرع الديمقراطية. وينبغي أن يشكل «اعتداء الحداثة» دعوة للاستيقاظ.
يمكننا البدء بالتمسك المستمر بالأفكار الغربية بشأن كيفية عمل المجتمعات الحديثة وكيفية توليد الازدهار، ناهيك عن الاندفاعة التي لا هوادة فيها نحو مزيد من التكامل والاندماج والترابط، من دون اعتبار يذكر للعواقب غير المقصودة الأوسع نطاقاً.
وهذا، بدوره، كان قد تحول إلى معتقدات سياسية مقدسة، مثل الحريات الفردية غير المقيدة، والحقوق والاستهلاك الجامح غير المقيد، للحفاظ على النمو الاقتصادي. ومع ذلك، فإن النتائج المترتبة على هذا التركيز واضحة للجميع: الأزمة المالية، التغيير المناخي، التلوث المتزايد في المدن على امتداد العالم، وتصاعد التوترات الجيوسياسية.
اعتداء الحداثة
ويمكن رؤية جانب آخر في هذا الاعتداء الذي تمثله الحداثة وما يصاحبه من إضفاء للطابع الغربي بأي ثمن، وذلك في الطريقة التي يجري فيها ذوبان الثقافات والتقاليد. لماذا يعتبر هذا تهديداً؟ وهناك تخوف واستياء من هذا التآكل من جانب العديد من المجتمعات التي تتصف بتقاليد قوية مستمرة، لكنها محفوفة بمشاعر انعدام الأمان، ولديها إحساس بالمهانة.
وهناك مشاعر من الألم والخوف غير مفهومة من قبل المعلقين الغربيين البارزين، ولم يمنحوها حق قدرها. كيف يمكن أن يحدث ذلك؟
ما وراء البيانات والنقاشات حول الطريقة التي يفضي التواصل العالمي والانتشار غير المتوقف للتكنولوجيا إلى جعل العالم مكاناً أفضل، هناك توترات كبرى تتفاقم، ونحن نبدأ في مشاهدة الإشارات القوية الأولى لوصول موجة التسونامي. وبالتالي، فيما يحتدم النقاش حول الشعبوية المتزايدة، ينبغي علينا أن نشكك بدوافع المعلقين الذين يحاولون تفسيرها بمصطلحات دالة على رفض وازدراء.
العولمة قديمة العهد
العولمة، ببعض معانيها العامة، لا تخضع للمحاكمة هنا. العولمة كانت موجودة منذ أن تم تبادل أول كيس ملح في التاريخ، ومنذ كان يجري نقل البهارات من الشرق إلى الغرب، ومنذ أن تم اكتشاف الحرير في الصين من قبل باقي العالم، ومنذ أن تم استخدام العبيد لبناء العالم الجديد.
وما هو في قفص الاتهام في القرن الواحد والعشرين، هو العولمة الاقتصادية التي تحركها الرأسمالية المتطرفة المدفوعة من قبل نخبة تريد الحفاظ على نفسها وترى الأرباح المفرطة هدفها الرئيسي.
وهذه العولمة الاقتصادية تسير بالتوازي مع فكرة اقتصادية حديثة مفادها أنه يمكننا جميعاً أن نطمح لأن نكون أغنياء أو من الطبقة الوسطى: وهو اعتقاد لا يبدو ملائماً مع تزايد التفاوت في المداخيل، وواقع أن الثمانية الأكثر ثراءً في العالم لديهم ثروة تعادل نسبة الـ50% الأفقر في العالم.
نحن لا نعيش في عصر جديد من الشعبوية، بل نعيش في عصر من عدم المساواة الصارخة المجبولة بنسخة من العولمة تم احتجازها من قبل مصالح قلة على حساب الغالبية العظمى، مما أدى إلى الشعبوية. وهذا الوضع من عدم المساواة الدائمة والمتفاقمة هو نقيض الالتزام الليبرالي لبناء اقتصاد حديث ومعولم للجميع.
تعريف
الشعبوية هي بتفسيرها المبسط «أيديولوجية تعتبر المجتمع مفصولاً في النهاية إلى قسمين متجانسين معاديين، هما «الشعب الصالح» مقابل «النخبة الفاسدة» وأن السياسة يجب أن تكون تعبيراً عن إرادة الشعب»، ولا يقتصر مفهوم سيادة الشعب على الشعبوية، لكن ما يميز هذه الأخيرة هي نظرتها للشعب بأنه مجموعة متجانسة فاضلة، وأن الأكثرية الصامتة هي أساس المجتمع الصالح. (العالم السياسي، كاس مودي)