ككرة الثلج، كبر التوتّر بين تركيا وهولندا بعد منع الأخيرة هبوط طائرة وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو في مدينة روتردام التي قصدها لحضور تجمعات مؤيّدة لإقرار التعديلات الدستورية التي تعزز سلطات الرئيس رجب طيب أردوغان وتوسّع صلاحياته. وفي الوقت ذاته تعرضت وزيرة شؤون الأسرة التركية للطرد من هولندا التي قصدتها براً للغرض ذاته.

وفي لمح البصر، تداعت كل أوروبا تضامناً مع هولندا، فالسويد ألغت تجمّعاً لمؤيدي التعديلات الدستورية التركية في ستوكهولم، والدنمارك رفضت استقبال رئيس وزراء تركيا، وأجمعت الأصوات الأوروبية على رفض تصريحات القادة الأتراك واتهاماتهم لهولندا.

كان دافع هولندا في الظاهر أنها ليست ميداناً لحملات انتخابية من دول أخرى، وكان رد أردوغان قاسياً وضارباً على الوتر الحساس، فالهولنديون حسب وصفه «بقايا النازية والفاشية».

وإذا كان البعض يضع هذا السجال في خانة الانزعاج الأوروبي من سعي أردوغان إلى تعزيز صلاحياته والتفرد بالسلطة، بالتوازي مع قضايا مثل حريات الصحافة والعمل السياسي في أنقرة، يضعه آخرون في خانة التوظيف الأردوغاني لهذا التصعيد في معركة داخلية تركية. في ظاهر الأزمة، يستطيع المدافعون عن تركيا، داخلها أو خارجها، أن يقولوا إنها لا تريد القبول بوصاية أوروبية.

لذلك تناور وتصعّد الخطاب، لكن في الظاهر أيضاً، يستطيع المنتقدون أن يتساءلوا: إلى أين يمضي أردوغان بتركيا في ظل انهيار شعار «صفر مشاكل» وفتح جبهة هنا وإغلاقها هناك خلال فترات قصيرة، مثلما حصل قبل ذلك مع موسكو والعراق وسوريا ومصر؟. وبناء عليه، هل تتجه علاقات أنقرة بأوروبا نحو القطيعة؟ وما الأوراق التي يملكها الطرفان للضغط كلّ على الآخر؟.

اليمين المتطرف

الصحافي التركي مصطفى أوزجان رأى أن الدول الأوروبية تحاول الضغط على أنقرة جراء الخلافات القائمة بين الجانبين حول قضية اللاجئين والتي هدّدت من خلالها تركيا بإنهاء هذا الاتفاق في حال لم يلتزم الاتحاد الأوروبي بتعهداته السابقة، إضافة إلى وجود كره بدا يطفو على السطح تجاه أردوغان من جانب بعض دول الاتحاد.

وبهذا يذهب أوزجان في حديثه لموقع «أورينت نت» إلى اعتبار أن صعود اليمين المتطرف في الدول الأوروبية هو سبب الأزمة بين تركيا وهولندا، مشيراً إلى تأثيرات سلبية على المدى القريب في حال واصلت بعض هذه الدول ما أسماه «انتهاك الأعراف الدولية وعدم السماح للمسؤولين الأتراك بالاجتماع بالجاليات التركية في أوروبا».

وسواء كان التصعيد تركياً أو أوروبياً، فإن أوزجان الذي يعتبر أن التصعيد أوروبي، يرى أن هذا التصعيد صب في صالح أردوغان والاستفتاء الدستوري القادم، مستشهداً على ذلك بأن أحزاب المعارضة وقفت إلى جانب حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا ضد أوروبا.

هذا تجلى في تصريح رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليجدار حين قال «ما حدث مع وزرائنا في هولندا وألمانيا غير مقبول أبداً.. أدعو حكومتنا أن تعلّق العلاقات بين البلدين، وسندعم حكومتنا وقرارتها بشتّى الطرق».

كذلك صرّح رئيس حزب الحركة القومية المعارض دولت باهجلي «ما حدث هو بقعة سوداء في حرية الفكر والتعبير بالديمقراطية في أوروبا. سندع هولندا تستمر فيما تفعله ونحن كتركيا سنردّ عليها بالشكل المناسب».

توتّر خفي

ويبدو أن التصعيد التركي الهولندي المفاجئ ليس سوى عنوان لتوتّر خفي، يسود منذ فترة العلاقات بين تركيا وأوروبا عموماً، لكن فقاعاته تصعد إلى السطح مع كل محاولة لحظر تجمّعات لمواطنين من أصول تركية، يحضرها وزراء أتراك في دول مثل ألمانيا والنمسا وهولندا.

لكن ثمّة من يرى أن التوتر التركي الأوروبي يعود أساساً إلى إحساس تركيا بالخذلان تجاه الموقف الأوروبي الفاتر وربما الصامت من محاولة الانقلاب العسكري الفاشل، الذي شهدته تركيا في 15 يوليو من العام الماضي، وهو الموقف الذي عبر عنه العديد من المسؤولين الأتراك الذين أثنوا بالمقابل على موقف موسكو التي كانت أول المتضامنين مع انقرة رغم أن العلاقات كانت في أشد توتّرها في ذلك الوقت.

وعلى ما يبدو فإن القليل جداً من المراقبين لا يوافق على أن السلطات التركية تسعى من خلال هذا التصعيد للاستفادة من مخزون الأصوات الانتخابية لدى جاليات من أصول تركية في غرب أوروبا، وأن إثارة مشاعر تجذبهم للوطن الأم، تخدم هذه الحملة، وهو ما أزعج العديد من الدول الأوروبية التي ترى أن ولاء المواطنين يجب أن يكون للدول التي يقيمون فيها أولاً.

استفتاء وانتخابات

وإذا كان من شأن هذا التصعيد أن يخدم استفتاء أردوغان على توسيع صلاحياته، فقد بدا واضحاً أن القضية أدت في الآن نفسه إلى زيادة أسهم اليمين المتطرف في الدول الأوروبية المعنية، حيث توجّه اتهامات للمواطنين من أصول تركية والمهاجرين عموماً بأن ولاءهم لأصولهم وليس للدول التي يقيمون فيها. ولعل هذا ما يحرج القادة الأوروبيين على أعتاب انتخابات في أكثر من بلد.

هل هي أزمة عابرة أم أنها قد تطول؟ يبدو أن الشق المزمن في الأزمة مرشّح للاستمرار إلى إشعار آخر، لكن الشق الطارئ فيها قد لا يستمر طويلاً، لأن الطرفين لا مصلحة لهما في استمراره. وهذا ما نقرأه في تصريحات رئيس الوزراء الهولندي التي حملت ميلاً نحو التهدئة، فرغم وصفه ما حدث بأنه «أسوأ أزمة تشهدها بلاده منذ سنوات»، إلا أنه قال في الوقت ذاته «سنفعل كل ما في وسعنا للتهدئة».

ومثله كان رد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي رفضت في وقت سابق دعوات بالتصعيد ضد تركيا من جانب شركائها في أوروبا، ولا سيما بعد سجن صحافي ألماني في تركيا.

خيارات الرد التركي

وإذا أخذت الأزمة منحى الاستمرار والتصعيد أكثر، يؤكد الصحافي التركي مصطفى أوزجان أن هناك العديد من الخيارات الدبلوماسية كما حدث مع إعلان وزارة الخارجية التركية استدعاء القائم بالأعمال الهولندي ومنع السفير الهولندي من العودة إلى تركيا، إضافة إلى إمكانية قطع العلاقات الاستخباراتية معها.

ومن الخيارات أيضاً وقف زيارات القادة العسكريين الهولنديين إلى القاعدة العسكرية في أضنة، وكذلك إغلاق الأجواء التركية أمام طائراتها العسكرية، إضافة إلى فرض عقوبات اقتصادية عبر إيقاف استيراد السلع رغم وجود اتفاق جمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي.

ولوح أردوغان في وقت سابق بمنع دبلوماسيين هولنديين من دخول تركيا، كما أعلنت أنقرة أنها لا ترغب حالياً في عودة السفير الهولندي من إجازته.

يبدو حجم الشراكة الاقتصادية بين تركيا والاتحاد الأوروبي، عصياً على أي توتر، إذ تشير بيانات مكتب الإحصاء الأوروبي (يوروستات) إلى أن تركيا تأتي في المرتبة الخامسة، في حجم التبادل التجاري مع الاتحاد الأوروبي، هذا إضافة إلى صعوبة تخلي أوروبا عن تركيا، كشريك استراتيجي وعسكري وعضو في حلف شمال الأطلسي، في وقت تبدو علاقاتها مع أميركا في عهد دونالد ترامب ومع روسيا أيضاً في حالة ضبابية.

ورقة المهاجرين.. بين التهديد والمصلحة

في خضم الأزمة الناشبة بين تركيا والدول الأوروبية، تلوّح أنقرة مجدداً بورقة المهاجرين، في حين يرى محللون أن تركيا ستكون خسارتها أكبر في هذا الملف.

وقال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، السبت إن الاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي بما في ذلك اتفاق كبح تدفق المهاجرين ستكون معرضة للخطر إذا لم ينفذ الاتحاد التعهدات بإعفاء الأتراك من تأشيرة الدخول. وأضاف ان تركيا ستقدم نصاً نهائياً للاتحاد الأوروبي «وإما أن تلغى كلها بما في ذلك الإعفاء من التأشيرة واتفاق المهاجرين أو تنفذ كلها».

وكانت تركيا والاتحاد الأوروبي اتفقا العام الماضي على أن تكبح تركيا تدفق المهاجرين على أوروبا مقابل حصولها على مساعدات بمليارات اليورو وإعفاء المواطنين الأتراك من استخراج تأشيرة دخول قصيرة الأمد.

ويتوقع خبراء بأن توتر العلاقات بين أنقرة وبعض العواصم الأوروبية سيؤثر على اتفاقية اللاجئين الموقعة بين دول الاتحاد وتركيا، حيث أشاروا إلى أن الأخيرة ستكون الخاسر الأكبر في حال أوقفت العمل بالاتفاقية.

نوع من التحسّن

وذكر موقع «دويتشه فيله» الألماني في تقرير له نشر الأحد أن العلاقات التركية الأوروبية شهدت في الفترة الماضية نوعا من التحسن وخاصة بين أنقرة وبرلين، حيث التقى وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل بنظيره التركي مولود أوغلو لإعادة أجواء الثقة بين البلدين.

وجاء اللقاء بعد يوم من تصريحات لأوغلو ندد فيها بإلغاء خطابات الساسة الأتراك في ألمانيا، حيث قال ان ألمانيا تمارس ضغطاً «ممنهجاً» على الأتراك داخل ألمانيا.

تهدئة التوتّر

تقرير الموقع أشار إلى أن وزير الخارجية الألماني خلال لقائه بنظيره التركي حاول تهدئة التوتر بين البلدين، ويمكن أن يكون له علاقة باتفاقية اللاجئين المبرمة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا والتي قلصت عدد اللاجئين المتدفقين على أوروبا.

التقرير أوضح كذلك، أن تركيا تعتبر الاتفاق ورقة ضغط في يدها، حيث حذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكثر من مرة بأنه قادر على فتح الحدود التركية أمام اللاجئين صوب الاتحاد الأوروبي.

الاتفاقية صامدة

رئيس مكتب مؤسسة هاينريش بول المقربة من حزب الخضر الألماني في اسطنبول كريستيان براكيل، أكد أنه لا يتوقع إنهاء اتفاقية اللاجئين على المدى القريب، وذلك لأن «الفوائد الحالية لتركيا من الاتفاقية تفوق فوائد الاتحاد الأوروبي منها، لذلك فالأتراك لديهم مصلحة كبيرة للتمسك بالاتفاقية لأنهم لا يمتلكون بدائل أخرى».

تاشيرات

وأضاف براكيل «لو أنهيت الاتفاقية المبرمة بخصوص اللاجئين، فإن الكثير من الأمور ستتعرض للخطر في تركيا، لأن الأمر لا يقتصر فقط على حصول أنقرة على أربعة مليارات يورو من أوروبا فحسب، بل لن يكون سهلاً حصول الأتراك على التأشيرات إلى أوروبا، وهذه النقطة مهمة للحكومة التركية لأنها ستعتبرها نجاحا كبيرا لسياساتها».

الجدير بالذكر أن العام 2015 شهد تدفق حوالي مليون مهاجر ولاجئ نحو أوروبا قادمين من تركيا، وبعد تطبيق اتفاقيه الهجرة بين أنقرة والاتحاد الأوروبي انخفض العدد ليصل إلى نحو 173 ألف مهاجر، ويؤكد الباحث في علم الاجتماع فاسيليس تسيانوس أن «حوالي 2,5 مليون لاجئ يقيمون حالياً في تركيا لا ينتظرون إلغاء تلك الاتفاقية كي يتجهوا نحو أوروبا».