تنطلق الثورة الرقمية بسرعة قصوى فتلحّ في طرح التساؤل عن كيفية تغييرها لعالمنا، لا سيما أن كمية البيانات المنتجة تتضاعف في كل عام. ويسجل في كل دقيقة نتاج مئات آلاف عمليات البحث على محرك غوغل ومنشورات الفيسبوك، بما يتضمن ذلك من معلومات تعكس تفكيرنا ومشاعرنا. وسرعان ما سيتحول كل ما حولنا حتى ملابسنا لتصبح متصلة بشبكة الإنترنت.

ويقدّر أنه في غضون عشر سنوات سيكون هناك 150 مليار جهاز استشعار شبكي، بزيادة 20 مرة عن سكان الأرض، وسيتضاعف عندئذ حجم البيانات كل 12 ساعة. وتحاول الشركات تحويل البيانات الضخمة إلى مبالغ مالية هائلة.

سرعان ما سيصبح كل شيء ذكياً، فلن تكون لدينا هواتف ذكية وحسب، بل منازل ومصانع ومدن ذكية. فهل يجب أن نتوقع بأن يفضي هذا التطور إلى أمم ذكية وكوكب أذكى؟

يبدو جلياً أن الطريقة التي ننظم بها الاقتصاد والمجتمع ستخضع لتغيير في العمق، حيث إننا نختبر التحوّل الأكبر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عقب أتمتة الإنتاج واختراع السيارات ذاتية القيادة، ونتجه بخطى حثيثة نحو أتمتة المجتمع، الذي غدا عند مفترق طرق بما يعد بفرص كبيرة ومخاطر جسيمة. وإذا ما اتخذنا القرارات السيئة فإننا نهدد أعظم إنجازاتنا التاريخية بالضياع.

في أربعينيات القرن العشرين، اخترع عالم الرياضيات الأميركي نوربرت فينر السيبرنيطيقيا، أو السبرانية، وقد بدا له أن سلوك الأنظمة قد يتم التحكم به عن طريق التغذية المرتجعة المناسبة. وسارع بعض الباحثين إلى تخيل السيطرة على الاقتصاد والمجتمع وفقاً لهذا المبدأ الأساسي، لكن التكنولوجيا الضرورية لذلك لم تكن متوفرة حينها.

وتنتشر اليوم المجتمعات التي تتحكم بها البيانات، وما بدأ كبرنامج لحماية مواطنيه من الإرهاب انتهى بالتأثير على سياستي الاقتصاد والهجرة، وسوق العقارات والمناهج الدراسية.

وتحتذي الصين حذواً مشابهاً، حيث دعا محرك «بايدو» المرادف لغوغل الجيش للمشاركة في «مشروع دماغ الصين». ويتضمن المشروع تشغيل ما يسمى «خوارزميات التعلم العميق» عبر محرك البحث بناءً على البيانات التي يتم تجميعها حول المستخدمين.

ويتم أبعد من ذلك التخطيط لنوع من التحكم الاجتماعي، بحيث يتلقى كل مواطن ما يعرف بـ«مجموع المواطن»، الذي يحدد ظروف الحصول على قروض، وظائف، وتأشيرة سفر للدول الأخرى. ويتضمن هذا النوع من مراقبة الأفراد تصفح الناس لعالم الإنترنت وسلوك جهات الاتصال الاجتماعية خاصتهم.

وتبرز في السياق رؤى الفيلسوف إيمانويل كانط، وملاحظته بأن الدولة التي تحاول تحديد سعادة مواطنيها طاغية. وإن حق الفرد بالتطور الذاتي لا يمكن ممارسته إلا من قبل الذين يسيطرون على حياته، مما يفترض مسبقاً وجود إرادة معلوماتية ذاتية. ولا يمكن للديمقراطيات أن تتطور بصورة صحيحة إلا إذا احترمت الحقوق الدستورية، حيث يؤدي تقييدها إلى تقويض الدستور والمجتمع والدولة.

ولا يسعنا إلا القول باختصار إننا على مفترق طرق تحدد فيه البيانات الضخمة والسيبرنيطيقيا والاقتصاد السلوكي معالم مجتمعنا للأفضل أو الأسوأ. وإذا لم تتوافق التقنيات المنتشرة وقيمنا المجتمعية الجوهرية، فستلحق بنا الأضرار عاجلاً أم آجلاً. ويمكن أن تؤدي إلى مجتمع آلي توتاليتاري الخصائص.

وسيتحكم الذكاء الاصطناعي المركزي في أسوأ الحالات بمعارفنا وتفكيرنا وكيفية تصرفنا، في ظل تيار سائد ينتقل من برمجة الحواسيب لبرمجة البشر. وتكتسب التقنيات شهرةً في عالم السياسة، فتوجّه الحكومات تحت مسوّغ «الدفع»، المواطنين نحو سلوك أكثر سلامة وصداقة للبيئة ضمن صيغة أبوية ظاهرية لا تخدم إلا مصالحها في الواقع.

نحن نواجه اليوم لحظةً تاريخية تحتّم قرار السير على الدرب الصحيح، الذي يتيح لنا جميعاً الاستفادة من الثورة الرقمية. مما لا شك فيه أن البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي ابتكارات مهمة، تزخر بإمكانيات هائلة لتحفيز القيمة الاقتصادية والتقدم الاجتماعي، ومن غير المقبول إطلاقاً استغلالها لإقعاد المواطن.

%70

يحرز مجال الذكاء الاصطناعي قفزات مذهلة، سيما لناحية الإسهام في أتمتة تحليلات البيانات. وما عادت برمجة الذكاء الاصطناعي تتم سطراً تلو الآخر، بل أصبحت قادرةً اليوم على التعلّم، والتطوير الذاتي المتواصل بالتالي.

وما يقدر بـ 70 % اليوم من الصفقات المالية تتم من خلال خوارزميات قادرة على قراءة خطوط اليد وأنماط اللغة والتفوق على البشر، كما يسعها وصف محتويات الصور والفيديوهات. أما المحتوى الخبري فمنتج بجانب منه تلقائياً.

ويترتب على ذلك تبعات اقتصادية جذرية تنذر بتهديد الخوارزميات لنصف الوظائف تقريباً في الأعوام العشرة أو العشرين المقبلة، كما اختفاء 40 بالمئة من أبرز 500 شركة حالية في غضون عقد من الزمن.

ويمكن توقع تفوق الكمبيوترات الخارقة على قدرات البشر في الميادين كافة، بين أعوام 2020 و2060. وقد بدأ الخبراء بدق ناقوس الخطر. ويحذر أصحاب الرؤى التكنولوجية كـ«تيسلا موتورز» وبيل غيتس من مدى خطورة تفوق الذكاء الاصطناعي على البشرية جمعاء، على نحو يضاهي ربما خطورة الأسلحة النووية. فهل نعيش إخطارية التهويل؟

واجب الديمقراطيات

على الرغم من المنافسة العالمية المحتدمة، تقتضي الحكمة من الديمقراطيات ألا تنسف إنجازات القرون الماضية بسلاح الرقمية والذكاء الاصطناعي. وتحظى ديمقراطيات الغرب خلافاً للأنظمة السياسية الأخرى، بميزة التعلم المسبق لكيفية التعامل مع التعددية والتنوع، وكل ما عليها اليوم الاستفادة منها أكثر.

تثقيف رقمي

تقتضي الاستفادة من الثورة الرقمية التقيد بعشرة مبادىء جوهرية تشمل المزيد من لامركزية وظيفة أنظمة المعلومات، ودعم الإرادة المعلوماتية الذاتية والمشاركة، وتحسين الشفافية نحو بناء ثقة أمتن، وتقليص تشويه وتلوث المعلومات، وإتاحة تمحيص معلومات يسيطر عليها المستخدم، ودعم التنوع الاجتماعي والاقتصادي، وتحسين قابلية التشغيل البيني وفرص التعاون، توليد مساعدات رقمية وأدوات تنسيق، دعم الذكاء الجماعي وتعزيز السلوك المسؤول لمواطني العالم الرقمي من خلال التثقيف والتنوير الرقميين.

وتستتبع هذه الأجندة الرقمية حصد ثمار الثورة الرقمية التي تعم فوائدها على الاقتصاد والحكومة والمواطنين على السواء. وتطرح علامات استفهام كبيرة تسألنا عما ننتظر.

بنجامين فرانكلين - أحد الرواد الأميركيين

الديمقراطية حمل وذئبان يصوتان على غداءنا، والحرية حمل يقارع التصويت.

توماس جيفرسون - الكاتب الرئيسي لإعلان استقلال أميركا

الديمقراطية تختفي حين تأخذ من المستعدين للعمل وتمنح الممتنعين عنه.

جون آدامز - أول نائب رئيس أميركي الديمقراطيات

تذكروا أن الديمقراطية لا تدوم طويلاً، وسرعان ما تضيع وتفنى وتهلك. لا توجد ديمقراطية لم تقدم على فعل الانتحار.