فى السعى الى مراقد أهل البيت فى القاهرة, نمر بشوارع تفيض بالحياة, ويتدفق عبرها البشر فكأنهم يستأنسون بهم. ويطوفون باستمرار حول مراقدهم الشريفة الطاهرة. السيدة عائشة, اسم اذا سمعه الانسان تتداعى الى ذهنه معان عديدة, فهى من بيت النبوة. وأيضا اسم لمسجد شهير. واسم لمنطقة كاملة تماما مثل سيدنا الحسين, والسيدة زينب, والسيدة نفيسة. يطالعنا مسجدها المطل على الطريق السريع, والذى يواجهه جسر للسيارات, وتطاول مئذنة المسجد, مآذن أخرى قريبة مثل, السلطان حسن والرفاعى, وابن طولون, وشيخون, ومأذن مسجد محمد علي التى تقوم فوق القلعة وتشكل خلفية للقاهرة القديمة والحديثة. على الطرف الآخر من الطريق قباب الخلفاء العباسيين, وأضرحة الامراء المماليك. لذلك فإن الساعى الى مراقد آل البيت فى هذا المسار لا يرى فقط أضرحتهم الطاهرة, انما سيمر بأغنى منطقة فى مصر مزدحمة وثرية بالآثار الاسلامية من مختلف العصور. اينما اتجه البصر لابد أن يقع على قبة منقوشة. أو مئذنة رشيقة التكوين, أو آيات بينات محفورة بخط جميل على الجدران. نتوقف أمام مسجد السيدة عائشة, نتأهب للدخول إلى فضائه الجميل, المهدئ للنفس.. الباعث على الطمأنينة والأمن الروحى. تلك سمات تميز كافة مراقد آل البيت فى مصر, ولذلك ستلحظ العين وجوه مريدين جاؤوا من شتى الأماكن. من الريف, من الحضر, يسعون للزيارة. السيدة عائشة بنت جعفر الصادق, ابن الامام محمد الباقر, ابن الامام علي زين العابدين ابن الامام الحسين, ابن الامام علي بن أبى طالب كرم الله وجهه, وهى أخت الامام موسى الكاظم رضى الله عنه, توفيت عام خمس وأربعين ومئة. يؤكد المؤرخون من مختلف العصور وجود جثمانها الطاهر فى قرى مصر. نقرأ ما كتبه ابن الزيات فى كتابه عن الاعلام والمدفونين بالقرافة. الكواكب السيارة فى ترتيب الزيارة: (وأصح مما بالحومة مشهد السيدة عائشة لها نسب متصل بالامام الحسين بن علي بن أبى طالب). وتبعه السخاوى فى كتابه تحفة (الأحباب). (هذا قبر السيدة عائشة من اولاد جعفر الصادق ابن الامام محمد الباقر ابن الامام علي زين العابدين ابن الامام الحسين ابن الامام علي بن أبى طالب). ذكر ذلك أيضا الامام الشعرانى فى طبقاته, والامام المناوى. ولخص علي باشا مبارك فى خططه أقوال المؤرخين: (أخبرنى سيدى علي الخواص رضى الله عنه أن السيدة عائشة رضى الله عنها ابنة جعفر الصادق فى المسجد الذى له المنارة القصيرة على يسار من يريد الخروج من الرميلة الى باب القرافة, وهى السيدة عائشة بنت جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين قال المناوى: ماتت سنة خمس وأربعين ومئة..). يصف علي باشا مبارك مئذنة المسجد بأنها قصيرة, ولكنها الآن سامقة, شاهقة, المسجد الذى يصفه علي باشا مبارك شيده الأمير عبدالرحمن كتخدا سنة مئة وسبعين ومئة وألف هجرية, اثنان وستين وسبعمئة وألف ميلادية, أى بعد ألف سنة من وفاتها تقريبا. ويعد الأمير عبدالرحمن كتخدا من أعظم البنائين الذين عرفتهم مصر في العصر العثمانى, وكان صاحب ذوق رفيع فى تنفيذ المنشآت المعمارية الجميلة, وكان له اهتمام خاص بمراقد آل البيت, جدد المسجد الحسينى, والمشهد الزينبى والسيدة سكينة, والسيدة نفيسة, ومشهد السيدة عائشة. المسجد الذى بناه الأمير عبدالرحمن كتخدا,كان صغيرا بالقياس الى مانراه الآن. وعندما كتب المرحوم حسن عبدالوهاب عالم الآثار المصرية الكبير مؤلفه القيم عن مساجد مصر, وصف مسجد السيدة عائشة: (ولهذا المسجد وجهة غريبة اشتملت على بابين تقوم بينهما المنارة, والباقى منها دورتها الأولى, وقد كتب على عتبة الباب البحرى ما نصه: مسجد أسه التقى فتراه كبدور تهدى بها الأبرار وعباد الرحمن قد أرخوه تتلألأ بحيه الأنوار ومن هذا الباب يتوصل الى داخل المسجد, وقد عمر سنة أربعة عشر وثلاثمائة وألف هجرية, ستة وتسعين وثمانمائة وألف ميلادية, أما الباب الثانى فتوجد على يساره المنارة ومكتوب عليه: بمقام عائشة المقاصد أرخت سل بنت جعفر الوجيه الصادق وهذا الباب يؤدى الى طرقة على يسارها باب له عقد تحيط به كرانيش متعرجة يؤدى الى المسجد ونرى باب العتبة مكتوباً عليه: لعائشة نور يضئ وبهجة وقبتها فيه الدعاء يجاب يصفها العلامة حسن عبدالوهاب بانها من القباب البسيطة, فرشت أرضيتها بالرخام, الملون وتتوسطها مقصورة خشبية حول القبر الشريف, لكن المسجد منذ السبعينيات أصبح أكثر اتساعا, وأجمل, فقد تم تفكيك ونقل مسجد أولاد عدنان الذى كان يطل على ميدان باب الحديد حيث محطة القطار الرئيسية, وأعيد تركيب جدرانه ورخامه, وزخارفه, هذا هو المسجد الجميل الرقيق الذى نراه الآن, وبالنسبة لى فإن مرقد السيدة عائشة يعنى لى لحظات خاصة جدا, فعندما فاضت روح أمى الى بارئها رحمها الله عام ثلاثة وثمانين وتسعمئة وألف, صلينا عليها أمام ضريح السيدة عائشة ومرقدها الطاهر, كانت رحمها الله محبة لآل البيت, منتظمة فى زيارتهم, خاصة السيدة زينب, والسيدة نفيسة, والسيدة سكينة, وطبعا سيدنا الحسين من قبل ومن بعد, لذلك احتفظ لمرقد السيدة عائشة بمشاعر خاصة وأحرص على زيارته. نخرج من مسجد السيدة عائشة لنمضى سيرا على الأقدام الى شارع الأشرف مرة أخرى لنتوقف امام مرقد السيدة رقية, انها السيدة رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم من زوجته خديجة, تصغر اختها السيدة زينب بثلاث سنين, تزوجت بعثمان بن عفان, هاجر بها الى الحبشة, ولدت له ابنهما عبدالله وبه يكنى, عاش الطفل ستة أعوام, ثم نقر ديك عينه فتورمت ومات فى جمادى الأولى سنة أربع هجرية. لما عادا من الحبشة الى مكة ثم هاجر الى المدينة, وتوفيت السيدة رقية بعد مرضها بالحصبة ودفنت بالمدينة. اذن.. كيف جاءت الى مصر؟ كيف أقيم لها مرقد؟ عرفت مصر وعرف العالم الاسلامى مايعرف باسم مشاهد الرؤيا. ويقام عادة عندما يرى أحد الصالحين رؤيا يأمره فيها أحد الراحلين الكرام بإقامة ضريح له فى مكان معين فيقوم, وقد تلاقى فى ذلك فى مصر مع معتقد قديم بمقتضاه كان يتم بناء قبر رمزى فى مكان غير المكان المدفون فيه الجثمان, لذلك كان بعض ملوك مصر القديمة يدفنون فى سقارة ويقام لهم أضرحة رمزية فى ابي دوس. ليس أدل على تعلق المصريين بآل البيت من مشهد السيدة رقية المدفونة فى المدينة المنورة. ولكن المصريين اقاموا لها هذا المرقد المهيب, وتبدو القبة المقامة فوق الضريح مهيبة, جليلة, شاهقة, أما المحراب فلا مثيل له فى مساجد مصر, ويعتبر تحفة فنية رائعة يقصدها المهتمون بالفن الاسلامى من العالم كله, ولا يخلو كتاب يتناول الفن الاسلامى من صورة له, تبلغ سعته ثلاثة أمتار وعمقه متر وعشرين سنتيمترا, وارتفاعه ستة أمتار. تعلو طاقية على شكل محارة مفصصة يتوسطها جامة تحتوى على اسم (على) يحيط به اسم (محمد) سبع مرات, ويحيط بعقد المحراب صفان من الصفوف, الداخلى يحتوى على اثنى عشر صفا والخارجى أكبر ويحتوى على تسعة فصوص, ويحيط تجويف المحراب مستطيل زخرف خواصر عقد المحراب برسوم نباتية يتوسطها رسم دائرة, يعلو المستطيل شريط به كتابة كوفية, وتذكر الدكتورة سعاد ماهر نقلا عن العلامة الانجليزى كريزويل ان المشهد شيد عام سبعة وعشرين وخمسمئة هجرية, اكتشف كريزويل كتابة قرآنية ايضا الى جوار التاريخ, حروف جميلة زرقاء على أرضية بيضاء بالقبة, وتعتبر أقدم كتابة عربية بمصر نراها حتى الآن.