في الأدبيات الأمريكية التي نشرت عن حرب فيتنام تبرز «نظرية المجنون». هي ليست نظرية بالمعنى الفلسفي الجاد. إنها أقرب إلى «الشطارة» بالمعنى الشعبي. ومع ذلك فإنها برهنت على الصعيد التطبيقي على أنها ضرب من سوء التقدير. صاحب النظرية هو د. هنري كيسنجر الذي ارتبط اسمه ارتباطاً وثيقاً وتاريخياً كمستشار للأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون ولاحقاً كوزير للخارجية خلال عقد الستينيات بالجانب التفاوضي للحرب الأمريكية ضد الشعب الفيتنامي التي امتدت على مساحة عشر سنين حتى منتصف عقد السبعينيات وانتهت إلى هزيمة أسطورية للولايات المتحدة. الآن يعيد التاريخ الأمريكي نفسه إسرائيلياً ليكون ريتشارد نيكسون هو أرييل شارون وهنري كيسنجر هو شيمون بيريز. ويبقى أن ننتظر لنعرف ما إذا كان مآل الحرب الإسرائيلية الراهنة ضد الشعب العربي الفلسطيني سيكون مآل الحرب الأمريكية ضد الفيتناميين. ولكن لنعد أولاً إلى «نظرية المجنون»: ما هي؟ أولى الروايات عن هذه «النظرية» أوردها الكاتب الصحفي الكندي مايكل ماكلير في سرده الشائق لقصة الحرب الفيتنامية وملابساتها وتداعياتها السياسية من خلال كتابه «حرب العشرة آلاف يوم». يقول صاحب الرواية، وقد كان أحد الخلصاء من مساعدي الرئيس نيكسون في البيت الأبيض، إن كيسنجر كان يمارس «النظرية» في سياق العملية التفاوضية مع الفريق التفاوضي الفيتنامي في باريس الذي كان يرأسه «لي دوك تو» عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي الحاكم في جمهورية فيتنام الشمالية. عندما تصل المساجلة التفاوضية إلى نقطة يتصلب عندها الفريق الفيتنامي كان كيسنجر يطلب تعليق العملية... ثم بعد ذلك يختلي مع «لي دوك تو» فيقول له متقمصاً دور الناصح الأمين الذي لا يبغى للشعب الفيتنامي إلا الخير: أحب أن تعرف أن ذلك الرجل الجالس في البيت الأبيض في واشنطن (يعني رئيسه نيكسون) مجنون! ولولا أنني أقوم بتهدئته من حين لآخر لأمر بتسوية فيتنام كلها بالأرض!». ويطرق كيسنجر لحظة مدعياً الحيرة ثم يواصل: الآن وقد أوصلتم التفاوض إلى طريق مسدود فإن هذا الرجل عندما يبلغه الخبر سوف تعاوده حالة الجنون. إنه قطعاً سوف يأمر باستئناف القصف الجوي على مدنكم! ويطرق مرة أخرى قبل أن يقول: إنني أنصحكم بالمرونة وإبداء قدر من التنازل حتى أتمكن من تهدئة ثائرة ذلك الرجل المجنون! ووجه الغباء في «نظرية المجنون» هذه، كما هو واضح، أن كيسنجر كان يفترض أن نظيره الفيتنامي، الذي يمثل حضارة آسيوية عريقة عمرها يربو على ألفى سنة، من السذاجة بحيث أنه لم يكن يدرك أن «النظرية» متفق عليها سلفاً بين الرئيس الأمريكي ومساعده الأول على سبيل لعبة توزيع الأدوار. هذه المسرحية التاريخية يعاد الآن بعد 26 سنة من هزيمة أمريكا المدوية في فيتنام، إخراجها إسرائيلياً. شيمون بيريز مثل هنري كيسنجر (وهو يهودي أيضاً!) يتقمص دور الناصح الأمين في خطابه إلى الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه يلعب رئيسه شارون دور المجنون الذي لا يؤمن إلا بأسلوب إرسال الدبابات والمروحيات قاذفة الصواريخ والجرافات التي تسوي المباني بالأرض. لكن يبقى على الإسرائيليين أن يعودوا إلى دراسة سجلات الحرب الفيتنامية. فمقابل كل تصعيد أمريكي بالقصف الجوي المحموم كان الفيتناميون يردون الصاع صاعين على الأرض بتصعيد نوعي للهجومات البرية بأسلوب حرب العصابات. وفي الفصل الأخير للرواية الفيتنامية وقّع كيسنجر صك الاستسلام الأمريكي واستقال نيكسون من الحياة السياسية نهائياً.. وتحررت الأرض الفيتنامية.