تكرّس اللجنة الاجتماعية للمجلس الوطني الاتحادي، التي أتشرف أن أكون خبيرة فيها، جُلَّ اهتمامها في هذه المرحلة الدقيقة، لتعزيز ركائز التماسك الأسري، والارتقاء بجودة الحياة المجتمعية، من خلال مراجعة السياسات والتشريعات المرتبطة بالأسرة، والهوية، والتعليم، والعمل، والتكافل الاجتماعي.
وتنطلق اللجنة في أعمالها من فهم عميق للتغيرات السكانية والثقافية والاقتصادية، واضعةً نصب أعينها تحقيق التوازن بين الحفاظ على القيم الإماراتية الأصيلة، ومواجهة تحديات العصر، وذلك عبر تبنّي مقاربات استباقية ودامجة، تستلهم أفضل الممارسات الدولية، وتترجمها ضمن خصوصية النسيج الاجتماعي الإماراتي.
أرى، أن الأسرة الإماراتية تواجه حالياً تحديات متزايدة، نتيجة للتحولات الاجتماعية، الرقمية، والاقتصادية التي يشهدها العالم. ومع تسارع هذه التغيرات بصورة كبيرة، يمكننا الاستناد على تراثنا الوطني، لحفظ تماسك الأسرة واستقرارها. فالتراث الثقافي، حسب وجهة نظري، هو أداة حيوية لحماية النسيج الأسري والاجتماعي، فهو نظام سلوكي، يمكن ترجمته إلى ممارسات يومية داخل الأسرة، تعزز من تماسكها وتوازنها.
كلنا نعلم أن تراثنا الإماراتي يتميز بثرائه القيمي وتكامل عناصره، ولاحظت من خلال دراساتي، أنه يمكن للتراث أن يقدم حلولاً عملية لمشاكل الأسرة الإماراتية. فالعادات المرتبطة بالزواج في المجتمع الإماراتي، تعزز الروابط بين الأسرتين، وتقوي شبكات الدعم الاجتماعي حول الزوجين.
كذلك، فإن اختيار الشريك بناء على القبول الأسري والتقارب القيمي والاستعداد لتحمل المسؤوليات، يُعتبر عاملاً أساسياً في نجاح العلاقة الزوجية. بالإضافة إلى ذلك، فإن تقاليدنا العريقة المرتبطة بالأعراس، هي وسيلة لترسيخ الهوية المشتركة، وتعزيز الروابط الاجتماعية.
في ما يتعلق بالتربية، كان الآباء قديماً يربون أبناءهم على قيم مثل «السنع»، «السمعة الطيبة»، و«الاحترام المتبادل». هذه القيم لا تزال تحتفظ بأهميتها في الحد من الانفلات السلوكي أو العدوانية داخل الأسرة.
كما أن إعادة إحياء «المجالس»، كوسيلة للحوار وحل النزاعات، يمكن أن يكون له دور كبير في تعزيز ثقافة الحوار داخل الأسرة. فبدلاً من تفاقم الخلافات الزوجية، يمكن الاستعانة بكبار السن «العود»، مثل الجد أو الأعمام، كأدوار حمائية تقليدية، تعمل على حل النزاعات، قبل اللجوء إلى القضاء.
حين تكون الأسرة الإماراتية وفيّة لتراثها الأصيل، فإنها تغرسها بعمق في وجدان أبنائها منذ الطفولة، ليشبّوا على احترامها وتقديرها كجزء لا يتجزأ من هويتهم. فالأسرة الملتزمة بمنظومة التراث، تنشئ أبناءها على معاني النبل والشهامة والتكافل، من خلال أنشطة حيوية كالخيل والهجن، التي تعزز الانضباط والقيادة والثقة، وتدريبهم على اليولة والفنون الشعبية، التي تغرس فيهم روح الفريق والارتباط بالجذور.
إن هذا التكوين الثقافي المبكر، يصقل هوية وشخصية الطفل الإماراتي، وكذلك يُحصّنه فكرياً ونفسياً ضد موجات التغريب والانفصال القيمي، ويمكّنه مستقبلاً من بناء أسرة راسخة لا تُخترق، تُقاوم تفكك العالم من حولها، وتبقى حاملة لواء الهوية الإماراتية في وجه كل التحديات.
كذلك، فإن دور المرأة في التراث الإماراتي أيضاً، يعكس فهماً عميقاً للتوازن بين العمل والمنزل. فقد كانت المرأة الإماراتية تشارك في صيد اللؤلؤ، الزراعة، والحرف اليدوية، دون أن يُنظر إليها كمنافس للرجل، بل كعنصر تكاملي. يمكننا استخدام هذا الفهم المتجذر، لإعادة النظر في دور المرأة العاملة، باعتبارها شريكاً وليس خصماً، ما يشجع الأزواج على دعم توازنها بين الحياة المهنية والأسرية.
من مفردات التراث الإماراتي أيضاً، هو عنصر الأمثال الشعبية الإماراتية، التي تعتبر كنوزاً في الحكمة الزوجية والتعامل بين الآباء والأبناء. مثل «اللي ما له كبير، يشتري له كبير»، و«البيوت أسرار»، يعكسان قيماً عميقة، يمكن دمجها في المناهج التعليمية أو برامج التوعية الأسرية. وهذه الأمثلة هي أدوات عملية، يمكن أن تساعد في بناء جيل أكثر استعداداً لتحمل المسؤوليات الأسرية.
لكن لا يكفي الاحتفاء بالتراث بشكل رمزي، بل يجب أن تدعمه المؤسسات عبر تشريعات وسياسات، بسن تشريعات تُلزم المؤسسات بنشر محتوى إعلامي يعزز القيم الأسرية الإماراتية، وتتعاون معها المؤسسات التنفيذية، كوزارة التربية والتعليم، بتخصيص حصص دراسية إلزامية في المدارس عن التراث الأسري، وأيضاً مؤسسات النفع العام، في تأسيس مجالس أسرية، كجزء من منظومة حل النزاعات الأسرية.
كذلك دعم جمعيات المرأة المنتجة، ومراكز تعليم الحرف التراثية للأمهات، لتفعيل دور المرأة التقليدي في الاقتصاد المنزلي الحديث. إن إدماج قيم التراث في مناهج التربية الوطنية، والإرشاد الأسري، وبرامج الإعلام، يُسهم في بناء جيل مُحصن بالقيم الأصيلة، قادر على احترام شريكه، وتقدير دور الوالدين، والابتعاد عن النزاعات المفتوحة.
ولتحقيق ذلك، سنقدم للجنة الموقرة منظومة من المبادرات والأفكار التي تثري التراث الإماراتي في حياة الأسرة اليومية، وتساعد على حمايتها. دائماً أقول: التراث الإماراتي، هو «مورد سيادي» لبناء مستقبل أسري متماسك وآمن. عند تحويل هذا التراث إلى برامج ومؤسسات وقوانين، يمكن أن يتحول إلى «درع وطني»، يحمي الأسرة من التفكك، ويُكرّسها كركن أساسي في استقرار الإمارات للأجيال القادمة.