في ظروف صعبة جدا واستثنائية يمر بها العالم العربي، يتساءل المرء عن المثقف والمنظر والمفكر العربي؛ أين هو؟ ما هو دوره في المجتمع؟ ما هو موقفه مما يحدث من حوله؟ ما هي اتجاهاته وآراؤه حول انهيار الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية، التي كانت تحظى بالتمجيد والتسبيح من قبل الكثير ممن كانوا يعتبرون أنفسهم كتابا وشعراء وأدباء وفنانين... الخ؟ ما هو شعور المثقف العربي بعدما تحرك الشارع العربي ـ الشباب ـ وغيّر الأوضاع وأرغم الطغاة على الهروب بعد سنوات من التسلط والتجبر والظلم والاستبداد والطغيان.
في ثورات كسّرت حاجز الخوف وشباب ثار وانتفض وقرر تقرير مصيره ومستقبله بيده؟ أين هو المثقف العربي من الرداءة والتلوث الفكري والقيمي؟ أين هو مما يحدث من حواليه، وهو الذي كان يفترض أن ينظر للثورة وللتغيير وللانتفاضات والاحتجاجات والمسيرات وللمطالبة بحقوق الضعفاء والمساكين والأبرياء؟ أين هو من كل هذا وهو الذي كان يفترض ان يكشف عن المستور وعن السرقات والنهب وإهدار المال العام؟ أين المثقف مما كان يحدث خلال عشرات السنين من ظلم وكذب ونفاق؟!
إشكالية المثقف ودوره وأزمته ومكانته في المجتمع، تبقى من الإشكاليات المهمة والمعقدة والعويصة والرئيسية، المطروحة على الساحة الفكرية والثقافية والسياسية في العالم العربي. هل من مكانة للمثقف في مجتمع يفتقر لمستلزمات التفكير والتعبير عن الرأي، والحوار والمناقشة والحريات الفردية وحرية الصحافة، وما إلى ذلك من مستلزمات وضروريات وشروط الإنتاج الفكري الناضج والملتزم والمسؤول، الذي يستطيع أن ينّظر ويؤّسس للتطورات والتحولات الهامة والمصيرية في المجتمع!
التجارب التاريخية في العالم العربي، تشير إلى داء الاغتراب والتهميش والإقصاء، الذي عانى وما زال يعاني منه المثقف العربي عبر الأجيال والعصور. ففقدان الحرية والديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان، كلها عوامل أدّت إلى اغتراب المثقف العربي وتهميشه، سواء داخل وطنه حيث أصبح من الغرباء فيه لا يتعرف عليه ولا يتفاعل معه كما ينبغي، لأنه إذا فعل ذلك يكون مصيره المجهول، أو حين نجده يلجأ إلى الهجرة طلبا للحرية ولمتنفس يجد فيه مجالا للتفكير والإبداع. لكن تبقى الغربة والعيش خارج المحيط الطبيعي للمثقف بمثابة الموت البطيء، فالمثقف مهما كانت الصعاب والمشاق والمشاكل والعراقيل والحواجز، يبقى دائما مسؤولا إزاء مجتمعه لتحقيق الأهداف النبيلة التي يناضل من أجلها، وهي العدالة والمساواة والحرية والقيم الإنسانية النبيلة، ومن أهمها توفير الظروف المناسبة للفكر والابتكار والإبداع.
إشكال آخر مهم جدا ضمن سياق ظاهرة اغتراب المثقف، يتمثل في الرقابة الذاتية وممارسة الانسلاخ الإرادي والمباشر من المجتمع، والعيش في ضفافه وقشوره. وهناك موت بطيء آخر يعاني منه المثقف العربي، وهو نوع من الانتحار، حيث لا يستطيع المثقف أن يجرؤ على التعبير عما في داخله.
ولا يستطيع أن يضع أفكاره في خدمة المجتمع وفي خدمة المهمشين والمحرومين، ولا يستطيع أن يقول «لا» للظلم والطغيان والفساد والاستبداد. وهنا يجد المثقف نفسه في وضع معقد وصعب لا يحسد عليه، فإما التقرب من السلطة وهذا يعني الانسلاخ عن الجماهير وعن دوره المحوري والاستراتيجي في المجتمع، أو الانحياز للجماهير وللحق وللعدالة، وهذا يعني غضب السلطة على المثقف وإسكاته أو تهميشه بطرق مختلفة، بعضها معلن والبعض الآخر سري وضمني.
وفي كل هذا نجد أن المجتمع في نهاية المطاف هو الخاسر الكبير، لأن المجتمع الذي لا يملك نخبة من المثقفين العضويين ونخبة من المفكرين تنّظر وتنتقد وتقف عند سلبياته وهمومه ومشاكله وتناقضاته وإفرازاته المختلفة، لا يستطيع أن يكون مجتمعا يتوفر على شروط النجاح والإبداع والحوار والنقاش البناء والجاد، بين مختلف الفعاليات والشرائح الاجتماعية. وآليات الاتصال هنا داخل المجتمع مهمة جدا، فكلما كانت مرنة وسلسة ويسيرة، كلما نجم عنها التفاهم والوئام والوصول إلى الأفكار النيّرة. لكن كلما تعقدت آليات الاتصال والتواصل في المجتمع، وكلما أصبحت عسيرة ومفتعلة ومتملقة ومنافقة، كلما زادت مشاكل المجتمع وتفاقمت وزاد سوء الفهم وغاب التفاهم والحوار واحترام الأخر.
هذا ما يقودنا للكلام عن الثقافة التي أفرزتها القوى المختلفة في المجتمع، فهذه الثقافة هي بكل وضوح ثقافة التبرير والتملق والتخدير والتزييف والتستر على الحقائق ونشر الأكاذيب والخرافات، وكأن الهدف في نهاية المطاف هو تجهيل الرأي العام وتخديره، بدلا من توعيته والرقي به إلى مستوى الفعل والمشاركة في صناعة القرار وفي تحديد مصيره ومكانته بين الشعوب والأمم.
ما هو دور المثقف في المجتمع؟ وما هي علاقته بالسلطة؟ أسئلة تفرض نفسها في زمن سقوط الدكتاتوريين والمستبدين، وفي عهد ثورات الشباب، وفي عهد الإعلام الجديد والشبكات الاجتماعية. في البداية نتساءل عن مكانة المثقف في المجتمع وعن وضعيته وعن الدور الموكل إليه، ولماذا نتكلم دائما في العالم العربي عن أزمة المثقف؟ لماذا مثلا لا نتكلم عن المثقف العضوي في المجتمع، المثقف الحقيقي الذي ينتقد ويقف عند هموم وشجون المجتمع، المثقف الذي يعمل على تغيير الواقع وليس تكريسه، المثقف الذي يساهم في صناعة الفكر والرأي العام، المثقف الذي يحضّر مجتمعه شعبا وقيادة لمواكبة التطور الإنساني والحضاري والتفاعل الإيجابي مع ما يحدث في العالم.
تجدر الإشارة هنا إلى ضرورة النظر إلى المثقف كجزء فرعي من نظام كلي وهو المجتمع، ونتساءل هنا هل المثقف يُنتج المجتمع ويساهم في تحديد معالمه وقيمه ومبادئه، أم أنه جزء من المجتمع يذوب ويكرس تناقضاته وأخطاءه وطرق إدارته وعمله؟ فالمثقف عادة ما يكون مرتبطا بواقعه وبمجتمعه، يتفاعل معه، يؤثر ويتأثر به. لكن الإشكالية التي تطرح نفسها هنا، تتمثل في ماهية وطبيعة العلاقات التي يقيمها المثقف مع الجهات المختلفة الفاعلة في المجتمع.
وهنا نقف عند علاقة المثقف بالسلطة، هل هي علاقة تملق وخنوع وسجود وتبعية، أم أنها علاقة تقوم على الاحترام المتبادل والنقد البناء والرقابة، وهذا ما يفرز مناخ الرأي والرأي الآخر والحوار والنقاش من أجل الوصول إلى الصالح العام، حيث يصبح المثقف هو بوصلة الحاكم وهو موّجه المجتمع، في جو من الديمقراطية والشفافية والصراحة والقيم السمحة، والنسيج القيمي والأخلاقي الذي يجب أن يفرضه المجتمع على الجميع، والذي يجب أن يحترمه الجميع، حاكما ومحكوما ورئيسا ومرؤوسا.