جورجيا والاقتداء بالثورة المصرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

رفض الشعوب للأنظمة الحاكمة وثوراتها ضدها، ليس رهنا بالضرورة بطول مدة النظام في الحكم، بل بسياسات النظام الحاكم وفساده وسعيه للاستبداد بالسلطة، وفشله في الاستجابة لمطالب شعبه، وأيضا بوقوعه في أخطاء جسيمة. وهذا ما نراه الآن في جمهورية جورجيا (السوفييتية سابقا) المجاورة لروسيا، وفي نظام الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي، الذي حملته الثورة الوردية المدعومة علنا من واشنطن، في نوفمبر عام 2003 إلى كرسي الحكم.

ولم يكن الدعم الأميركي لسكاشفيلي دون مقابل، ولا من أجل الديمقراطية التي داسها ساكاشفيلي بأقدامه منذ وصوله للحكم، برفضه آراء ومشورة كل من حوله من رفاقه في الثورة الوردية، الذين انقلبوا عليه وأصبحوا جميعا ضده، يقودون المعارضة الآن مطالبين بتنحية ساكاشفيلي من الحكم، وعلى رأسهم رئيسة البرلمان السابقة والقائدة الفعلية للثورة الوردية عام 2003، زعيمة الحركة الديمقراطية «جورجيا الموحدة»، نينو بورجاندزه، والتي تقود المعارضة الشعبية الآن ضد ساكاشفيلي. وقد أعلنت بورجاندزه الأسبوع الماضي، أمام حشد كبير من الجماهير أمام مبنى التليفزيون في العاصمة تبليسي، عن بدء الثورة الشعبية في جورجيا، مطالبة بإقالة الرئيس ساكاشفيلي وإجراء انتخابات حرة. وقد تصدت قوات الأمن الجورجية بقوة شديدة للحشود الجماهيرية، مما أسفر عن سقوط العشرات من القتلى والجرحى.

وكانت حركة «التجمع الشعبي» المعارضة، قد بدأت تظاهراتها في الحادي والعشرين من مايو في مدينتي تبليسي وباتومي، للمطالبة باستقالة الرئيس ساكاشفيلي. وأدلى زعماء الحركة بعدة تصريحات مفادها أنهم يتعرضون للاضطهاد، وفي وقت سابق أشارت وسائل إعلام إلى أن عناصر من القوات الخاصة اقتحمت مقر الحركة في باتومي وأوقفت عشرات المعارضين. وفي الثاني والعشرين من مايو أعلنت بورجانادزه أن «الثورة في جورجيا قد بدأت»، وتعرضت التجمعات في الميادين للضرب والقمع وطلقات الرصاص المطاطية وقنابل الغاز، وسقط العشرات من القتلى والجرحى، لكن الحشود الشعبية تمسكت بالبقاء في الميادين وعدم مغادرتها.

وكانت زعيمة المعارضة نينو بورجاندزه، قد أعلنت للصحفيين أن جورجيا سوف تشهد تطورات شبيهة لتلك التي جرت في مصر، وحذرت بأنه «يجب عمل كل ما يلزم لتفادي إراقة الدماء في جورجيا، وأن يجري تبادل السلطة في البلاد ضمن إطار سلمي».

نظام الرئيس ساكاشفيلي اعتبر تصريحات زعيمة المعارضة عديمة الأساس، وقال دافيد باكرادزه رئيس البرلمان الجورجي، إن «ما حدث في مصر قد شهدته جورجيا في الثورة الوردية في نوفمبر 2003، فالمتظاهرون طالبوا في مصر بإجراء الإصلاحات الديمقراطية ومكافحة الفساد واستقالة الرئيس مبارك الذي حكم البلاد خلال 30 عاما، وكانت هذه نفس المطالب تقريبا في الثورة الوردية عام 2003».

المعارضة الجورجية تتهم الرئيس ساكاشفيلي بالفساد وبإهماله مطالب ومصالح الشعب، وبخضوعه بشكل واضح في سياساته الخارجية لواشنطن، التي تسعى للزج بجورجيا في أتون حرب طويلة الأمد مع روسيا. وكانت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، قد اتخذت قرارا عام 2009 بإمداد جورجيا بأسلحة ثقيلة، واستنكرت موسكو بشدة هذا القرار، باعتبار أن نظام الرئيس ساكاشفيلي يستعد لحرب مع روسيا فقط دون غيرها، الأمر الذي جعل الإدارة الأمريكية تعدل عن قرارها لاحقا، وإن كانت لدى موسكو معلومات بأن جورجيا يصلها السلاح من مصادر أخرى.

وكان ساكاشفيلي قد دخل في حرب مع روسيا في أغسطس عام 2008، بعد اعتدائه على مدينة تسخينفالي الصغيرة، في جمهورية أوسيتيا الجنوبية المستقلة عن جورجيا، وقتله أكثر من ألف من المدنيين العزل، الأمر الذي اضطر روسيا للتدخل بحكم التزامها الدولي بمنع النزاعات في هذه المنطقة. وأمام حدة هجوم القوات الجورجية، اضطرت القوات الروسية لاستخدام القوة، ودحرت قوات ساكاشفيلي وطاردتها داخل الحدود الجورجية.

المعارضة الجورجية الثائرة ضد ساكاشفيلي، ترفض تماما أية خلافات مع الجارة الكبيرة روسيا، التي يعتمد عليها الاقتصاد الجورجي بنسبة كبيرة، ويعمل في أراضيها ما يقارب ربع مواطني جورجيا البالغ عددهم نحو خمسة ملايين نسمة. كما تتهم المعارضة ساكاشفيلي بالإطاحة بوعود الديمقراطية والحرية التي وعدت بها الثورة الوردية، ووعدت بها واشنطن الشعب الجورجي عندما زار الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن جورجيا عام 2005، وأطلق ساكاشفيلي اسم بوش على أحد شوارع العاصمة تبليسي، مما أغضب الكثيرين. وقد تعرض الرئيس بوش حينها، لمحاولة اغتيال من شاب جورجي ألقى على موكبه قنبلة يدوية.

الآن تزداد حدة التظاهرات الاحتجاجية في جورجيا مطالبة بتنحية الرئيس ساكاشفيلي، بينما تقف روسيا موقفا مخالفا تماما لمواقفها تجاه الثورات الشعبية العربية، حيث تدعم موسكو بقوة المعارضة الجورجية، وتدين بشدة أساليب القمع التي يتعرض لها المتظاهرون. ولا غرابة في هذا الموقف الروسي بالتحديد، حيث يعتبر الروس أن جورجيا في ظل حكم الرئيس ساكاشفيلي، تشكل أخطر بؤرة تهديد لأمن روسيا واستقرارها، وأن ما يجري من عمليات إرهابية في منطقة شمال القوقاز الروسية، إنما يتم إعداده وتمويله وانطلاقه من داخل الأراضي الجورجية، وبعلم وتوجيه من الرئيس ساكاشفيلي. ولهذا فإن موسكو تدعم المعارضة الجورجية، من أجل التخلص من نظام ساكاشفيلي.

 

Email