لم تغب العين "الإسرائيلية" عن متابعة الحدث الداخلي السوري باهتمام استثنائي غير مسبوق، وهو اهتمام له أسانيده المعروفة، نظراً لدور سوريا في سياق الصراع العربي والفلسطيني مع المشروع التوسعي الصهيوني منذ النكبة عام 1948، ونظراً لما قد تجلبه أي تطورات داخل سوريا على معادلة الصراع، وعلى مستقبل المسار التفاوضي (المجمد عملياً) بين سوريا وإسرائيل منذ العام 2000، عندما انهارت المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية في شبيزداون في الولايات المتحدة وانتهت إلى جدار مسدود>

كما انتهت بعدها المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين التي حاولت تركيا القيام بها، حيث كانت مفاوضات القناة التركية غير المباشرة أشبه بمفاوضات "تعبئة فراغ وتمضية وقت، لا أكثر ولا أقل"، إذ لا تسطيع أنقرة عملياً رعاية مفاوضات من وزن مفاوضات معقدة ومزمنة، عجزت عن حمل أعبائها المنظومة الدولية بأكملها بسبب انحياز الموقف الأميركي وابتعاده عن الحد الأدنى من التوازن المطلوب.

انطلاقاً من ذلك، فإن إسرائيل تراقب عن كثب تطورات الوضع الداخلي السوري، وهي تأمل وتحلم بحدوث تحولات معينة في الداخل السوري، تؤسس للإطاحة بتحالفات سوريا الإقليمية والداخلية. ومن هنا نأمل أن تنتهي سريعاً التطورات الجارية داخل سوريا، بإعادة التأكيد على تجديد وحدة البلاد وتماسكها ووحدة الشعب السوري، وتحقيق الإصلاحات التي نادى بها الناس، مع الحفاظ على الدفق الوطني والقومي لسياسة سوريا المعروفة والمعلومة تجاه قضايا الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.

كانت سوريا وما زالت، ومنذ قيام الدولة العبرية الصهيونية على أنقاض الكيان الوطني والقومي للشعب الفلسطيني، قوة أساسية في إطار جبهة المواجهة مع إسرائيل، عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا، حتى لو قيل إن جبهة الجولان ما زالت صامتة منذ فض الاشتباك وفصل القوات عام 1974، ولم تطلق في سمائها رصاصة واحدة.

فالأمر المهم في هذا المجال، هو أن سوريا ما زالت العنوان الرئيسي والمفتاح الذي لا بد من كسره، حتى يتسنى تمرير عملية التسوية المطروحة بالمنظور الأميركي الإسرائيلي، ليس على المسار السوري فقط، بل على المسارين اللبناني والفلسطيني كذلك. فإضعاف سوريا بالنسبة لموقفها السياسي المتعلق بالتسوية، يضعف الوضع اللبناني ويضعف حالة المفاوض الفلسطيني.

إن سوريا لا تسطيع أن تقاتل وحدها في مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل، وهو أمر مسلم به، الآن على الأقل وفي المدى المنظور، لكنها في المقابل تستطيع أن توقف وتعطل مسار تسوية غير عادلة وغير منصفة، يراد فرضها على جميع الأطراف من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل.

فسوريا رفضت ما طرح عليها في مفاوضات شبيرزداون في الولايات المتحدة، عندما أعلنت إسرائيل استعدادها للانسحاب من كامل الجولان السوري، مع الاحتفاظ ببضع عشرات الأمتار من الشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية، وبالتالي في إبعاد سوريا عن مشاطأة البحيرة.

ولكن رب سائل يسأل؛ أما كان بالإمكان القبول بتلك الصفقة والانتقال إلى مرحلة تالية لترتيب الانسحاب الإسرائيلي عن المساحات إياها من الشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية، كما حصل مع مصر في مسألة طابا؟

إن الجواب على التساؤل إياه، يقودنا للقول بأن سوريا رفضت الصفقة لعدة أسباب، وهو أمر تبينه الوثاق المنشورة على كل حال. ومن تلك الأسباب أن هناك اشتراطات ثقيلة حاولت إسرائيل والولايات المتحدة فرضها، بالتوازي مع الاتفاق، ومنها الترتيبات الأمنية بين الطرفين، فضلاً عن قضايا التطبيع والعلاقات السياسية والاقتصادية... الخ، فضلاً عن قضية وجود أكثر من نصف مليون لاجئ فلسطيني في سوريا منذ عام 1948، وقد تم نسيانهم في مسارات التفاوض، فيما تؤكد الوقائع أن حل قضيتهم غير مطروح على الأجندة الإسرائيلية الأميركية، وأن الولايات المتحدة تعمل على تذويب قضيتهم وحلها بفعل واقع التوطين والتهجير.

وهنا، لا نقدم أطروحة دفاع عن الموقف السوري وعن السياسة السورية، أو عن النظام السوري كما يحلو للبعض من المتسرعين، ولا نتحدث عن الشأن الداخلي السوري وحراكه، ومطالب الشعب السوري التي يجب أن لا يدار الظهر لها، بقدر ما نقدم صورة واقعية، تبرز خلفية هذا الاهتمام الإسرائيلي غير المسبوق بما يجري داخل سوريا، وهو أمر نتمنى على الإخوة في المعارضة السورية ملاحظته والتدقيق فيه، وملاحظة ما جرى في مؤتمر "سان جيرمان" في باريس الذي حضره عتاة الليكود الصهيوني.

فتحول من منبر لدعم الشعب السوري (كما قيل من قبل الداعين له)، إلى منبر تنظير لليمين الصهيوني وسياساته ضد الشعب الفلسطيني. وحتى يتسنى ويتم بالفعل تصويب مسار الأحداث، والقبول من قبل أطراف المعارضة بمبدأ الحوار، واتخاذ هذا الخيار طريقا ومساراً، حتى لو كان متعباً أو مضنياً، أو طويلاً، أو محفوفاً بالمطبات والانتكاسات من حين لآخر، باعتباره خياراً لا بديل عنه للحفاظ على وحدة الشعب والبلاد، ولتحقيق مطالب الشعب السوري المحقة والعادلة.

وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية أن مداولات سرية عن الوضع في سوريا ومستقبل النظام، عقدت في الأيام الأخيرة في تل أبيب، وقد أظهرت تبايناً في مواقف الساسة الإسرائيليين من التعامل مع الوضع السوري. فقد عرض رئيس شعبة الاستخبارات في جيش الاحتلال (الجنرال أفيف كوخافي)، تحليلاً للوضع السوري من الوجهة الأمنية الإسرائيلية، أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الصهيوني، معتبراً أنه "لا يمكن الاستهتار برزمة الإصلاحات التي بدأ الأسد بدفعها".

كما تطرق كوخافي إلى الجيش العربي السوري، وقال إن "معظم الجيش بقي ولاؤه للأسد، وفي الأساس الضباط الكبار"، معتقداً في هذه المرحلة على الأقل، أن "الحديث يدور عن مهمة شرعية لمنع الوصول لأعمال شغب جارفة. ولا توجد انشقاقات في الجيش، فقط ما بين ٢٠ إلى ٣٠ من الضباط تركوا الجيش".

ويلحظ في هذا المجال أن التركيز الإسرائيلي على سوريا يتمثل في ثلاثة جوانب؛ أولها المستقبل السياسي للنظام الحالي، أو للنظام المتوقع بعد الإصلاحات، أو حتى في حال تمت الإطاحة به، من زاوية دور سوريا في مسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وبالتالي في قبولها رزمة التسوية المطروحة.

وثانيها، في الدور المتوقع للجيش العربي السوري، والمآلات التي سينتهي إليها من حيث الحجم والتكوين والتسليح والفلسفة القتالية. فإسرائيل تعتبر أن الجيش السوري جيش مهني وعقائدي في الوقت نفسه، ومتشبع بروح العداء للدولة العبرية، وبالتالي فإن إسرائيل تولي هذا الأمر أهمية كبرى.

والجانب الثالث، في تفكيك علاقات سوريا وتحالفاتها الإقليمية والمحلية، في لبنان وفلسطين وغيرها، والتفاؤل بحدوث إعادة تكوين خارطة جديدة لمنظومة الحالة العربية الرسمية.