شهدت مدينة حمص، ثالث المدن السورية سكاناً، في الأسبوع الماضي أحداثاً بدت وكأنها أحداث طائفية، تمثلت في وجود قتلى من إحدى الطوائف ألقوا في الشارع، مما أدى إلى رد فعل ضد طائفة أخرى، حرقت فيه محلات وسقط جرحى، وامتلأت جدران الأسواق التي تعود لكلتا الطائفتين بالشعارات الاستفزازية المعادية ( ويقال ان الخط الذي كتبت به الشعارات على جدران الجهتين هو نفسه، مما يؤكد أن الكاتب واحد).

وأن الأمر مفتعل، وأنه بداية تحريض واستفزاز من شأنه إشعال فتنة طائفية في المدينة، وهي مدينة متعددة الطوائف، بغض النظر عن نسبة كل طائفة لعدد السكان، ففيها مسلمون سنة ومسلمون علويون ومسيحيون وأفراد من طوائف أخرى صغيرة، وبالمحصلة فالمدينة (موزاييك) طائفي، وقابلة أكثر من غيرها لإشعال الفتنة فيها، وإطلاق شرارة العنف وحقن سموم التقاتل.

سارعت بعض الجهات السورية إلى اتهام السلطة السياسية بالقيام بهذا العمل لإشعال الفتنة الطائفية، التي ـ حسب رأي هذه الجهات ـ تعطي مبررات للسلطة للتدخل العنيف، وتغطي على خطة ما تسميه حسم الموقف وإسكات التظاهر والاحتجاج، حيث يضطر الجميع عندها للعودة إلى هذه السلطة والطلب منها أن تكون حكماً. أما المنتفضون والمحتجون الذين يخرجون بمظاهرات يومية، ويكتوون باستخدام العنف ضدهم، فقد رفعوا أصواتهم بشعاراتهم التي تدعو للوحدة الوطنية، وتنبذ الطائفية وتؤكد الأخوة بين أبناء المدينة وبين السوريين عامة.

وقد اتهمت السلطة بدورها (العصابات المسلحة) و(السلفيين) و(المتآمرين) بأنهم وراء هذا العنف، الذي يشكل مقدمات لحرب طائفية يريدون إشعالها، وقد أوقعت أحداث حمص الرعب لدى جميع الطوائف الدينية السورية، كبيرها وصغيرها، واستنكرها الجميع بدون استثناء، وكانت الدهشة بادية في أحاديثهم وشعاراتهم وفرضياتهم على اعتبار أن سورية لم تقتحم تاريخياً وحل الطائفية، وكان تعايش طوائفها دائماً مثالاً يحتذى، وأخذ السوريون يتذكرون أن رئيس وزرائهم كان مسيحياً في أربعينات القرن الماضي.

وكان يملك كل السلطة حسب الدستور، وكذلك رئيس مجلسهم النيابي وكان مجلساً تمثيلياً بحق، ولم يحتج أحد في حينه على ذلك، وطالما كان رئيس أركان الجيش علوياً أو مسيحياً وكان أحد كبار ضباطه أرمينياً، وحصل أكثر من مرة أن كان رئيس الجمهورية كردياً، وفي الخلاصة استذكر السوريون أن الاستفزازات الطائفية والفئوية والفتن والنداء الطائفي، هي أمور غريبة على تعايش السوريين، فنسيجهم الوطني أقوى تماسكاً من كل هذه المحاولات، ولهذا كله سرعان ما تم وأد الفتنة في مهدها.

منذ بدء الاحتجاجات والتظاهرات في شهر مارس الماضي، اعتمدت سياسة محددة تجاه المتظاهرين فحواها أن هذه الاحتجاجات يقودها سلفيون وعصابات مسلحة وعملاء ومتآمرون، وأنهم يسعون لإقامة إمارة أو إمارات إسلامية حيثما أمكنهم ذلك، وأجرت وسائل الإعلام السورية مقابلات مع معتقلين (اعترفوا) بأنهم تسلموا سلاحاً وتقاضوا أموالاً من أجل القيام بالثورة تمهيداً لتأسيس إمارات إسلامية، وقامت أجهزة الأمن بإبلاغ الكنائس ورجالها أنهم مهددون، وتم توزيع (مناشير) على الكنائس بهذا المعنى.

كما أُطلقت شعارات معادية للطائفة العلوية لم يعرف أحد مصدرها، وفي الخلاصة حققت هذه الشائعات أهدافها، وزرعت الخوف في نفوس الطوائف الصغيرة، فبقيت صامتة وعلى الحياد بين السلطة والمنتفضين، ولم يساند الانتفاضة سوى مثقفي هذه الطوائف وفي الحقيقة معظم مثقفيها، إلا أن الخوف والتحسب بقيا أساسيين. ولم يلغ هذا الخوف تأكيدات المنتفضين على وحدة الشعب السوري ولا تطمينات أبناء الطائفة السنية وهي ذات النسبة العالية جداً (70%) للطوائف الأخرى الصغيرة.

من الشروط الموضوعية التي تقضي باستبعاد أية فتنة طائفية في سورية بل واستحالتها التعايش التاريخي بين الطوائف في سوريا، وتداخلها وتشكيلها معاً نسيجاً اجتماعياً واحداً، إضافة إلى أن نسب الطوائف الصغيرة هي نسب متواضعة قياساً إلى مجموع الشعب السوري، بحيث لا تزيد نسبة أية طائفة منها على (10%) من مجموع السكان، ينطبق هذا على المسيحيين والعلويين وحتى قومياً ينطبق على الأكراد، أما الدروز فلا تزيد نسبتهم على (3%) من السكان، ويحتل الإسماعيليون نسبة أقل وزناً (وقد شارك الإسماعيليون بالانتفاضة مشاركة كاملة منذ أيامها الأولى)، ولأن المسلمين السنة يشكلون الأكثرية الساحقة فبديهي أن لا يكونوا متعصبين، بل العكس هو الذي كان يحدث، ذلك لأن التعصب هو نوع من أنواع الدفاع عن النفس.

إن وعي الشعب السوري الذي تشكل خلال مئات السنين هو وعي مؤمن بالمساواة والمشاركة والتعاون بين الطوائف واعتراف كل منها بحقوق الطائفة الأخرى، هذا فضلاً عن الاختلاط الاجتماعي، والتعاون المثمر وحتى الاحتفال المشترك بالأعياد والمناسبات، والمشاركة في السراء والضراء، خاصة أن أصل معظم مسيحي سوريا من القبائل العربية التي قدمت إليها قبل الإسلام، قبائل غسان وكلب وتغلب وتنوخ وربيعة ومضر وبكر وغيرها.. وقد ساعدوا المسلمين أثناء الفتوحات وخاضوا معهم الحروب ضد البيزنطيين.

كما أن معظم العلويين من القبائل العربية المشهورة، وهم قوم سيف الدولة الحمداني الذين رحلوا أو رُحّلوا إلى الجبال المسمّاة باسمهم، والأمر نفسه ينطبق على الدروز (بني معروف) وعلى غيرهم من الطوائف الصغيرة الأخرى، ولعل هذا الأصل العربي المشترك الذي يحمل معه وفي أعماقه الثقافة العربية، هو الذي عزز التعايش بين طوائف سورية.