في ندوة متخصصة لبضعة خبراء في الشأن الفلسطيني، عقدت أواخر يونيو الماضي في مركز للدراسات الاستراتيجية في القاهرة، دافع أحد المشاركين عن فكرتي الدولة ثنائية القومية أو دولة لكل مواطنيها، كبدائل لحل الدولتين الرائج حاليا، بغية حسم الصراع على أرض فلسطين ومستقبل العلاقات الإسرائيلية ـ الفلسطينية.
كانت حجج صاحب الاقتراح ومؤيديه، أن الدولة الفلسطينية التي تجتهد القيادة الفلسطينية راهنا في إعلانها وطلب عضويتها في الأمم المتحدة، ستكون مجزأة وستلاحقها مشكلات لوجستية واقتصادية وسكانية.. كما أن حضورها قد يقترن بشروط قاسية، كالاستعاضة عن حق عودة اللاجئين إلى مساقط رؤوسهم، بعودتهم إلى "دولتهم الأم" فلسطين.
للوهلة الأولى، يبدو هذا الطرح منطقيا ومقنعا، لا سيما بين يدي العاطفين على النظريات الإنسانوية في التعامل بين الأقوام المتباينة إثنيا أو ثفافيا؛ الذين تسوقهم الأقدار إلى ضرورة العيش المشترك في كيانات سياسية واحدة. غير أن مشاركين آخرين تبنوا رؤية مضادة، نحسبها أكثر إقناعا ومعقولية وواقعية. فإسرائيل المتفوقة على الشق الفلسطيني في مناح كثيرة من موازين القوى، لن تتجاوب مع هكذا بدائل تلغي ميزاتها على الإطلاق.. حتى إن من يطالب بدولة لكل مواطنيها في إطار هذه الموازين، كمن ينشد المستحيل. ولا شك في أن إسرائيل التي تتجه أكثر فأكثر نحو مزيد من النزعات العنصرية والانعزالية تحت شعارات رؤيوية دينية توراتية، والتي يصول فيها اليمينيون الاستيطانيون المتشددون ويجولون، لن تقبل بحلول من طبيعة إدماجية أو تعاونية أو ديمقراطية مع "الآخر الفلسطيني".
وفي سياق السجال ذاته، جادل معارضو حل الدولة الواحدة، بأن البعد الاستيطاني الإحلالي للعقيدة الصهيونية ونخبها الحاكمة، ما زال قوياً وفواراً في إسرائيل، وتساءلوا عما إذا كان من الممكن إغلاق أبواب الهجرة اليهودية والاكتفاء بالقوام السكاني اليهودي الموجود فيها الآن، ووقف استيراد المستوطنين يهودا كانوا أم غير يهود، لأجل إنجاح مشروع الدولة المشتركة الخيالي.
لم يمر على هذا النقاش سوى أيام معدودات، حتى أعلنت الدوائر الصهيونية الإسرائيلية المعنية بالهجرة والاستيعاب، عن التهيؤ لاستقبال نحو 7500 مهاجر يهودي من بلاد الهند التي تركب الأفيال. بهذا الإجراء ثبت مجددا أن جوهر المشروع الصهيوني ما زال حياً يسعى.. إنه المشروع ذاته الذي نهض منذ أيامه الأول على أقنومين: الاستيلاء على الأرض الفلسطينية وإزاحة سكانها الأصليين من جانب، واستجلاب من يستولون على هذه الأرض ويستوطنونها من جانب آخر.
ماذا يعني استقدام جماعة ممن ينسبون إلى اليهود، حقيقة أم بهتاناً، غير أن ماعون الدولة الصهيونية لم يمتلئ بعد، وأنه لو امتلأ ذات لحظة تاريخية، فقد يفيض أو يطفح على جواره اللصيق أو محيطه الإقليمي القريب، خاصماً في كل حال من جغرافية الدولة الفلسطينية؟! ثم إنه إذا كان هؤلاء المستوطنون الجدد قد آثروا النزوح إلى إسرائيل، فمعنى ذلك أنهم إما لم يتمكنوا من التكيف مع مجتمعات بلدانهم الأم، وإما أنهم ينتظرون وعودا وفرصا أفضل في إسرائيل، وفي الحالتين ليس ثمة ما يبشر بأنهم في وارد التكيف والانسجام مع المجتمع الفلسطيني في "دولة لكل مواطنيها" التي يأملها بعض الحالمين.
وبالمناسبة، تشير السوابق والخبرات المتراكمة إلى أن قضية صعوبة التكيف والانسجام هذه، تنطبق أيضا على علاقة المستوطنين الجدد بالقدامى في أحشاء التجمع الصهيوني ذاته. ومع ذلك فإن النخب الصهيونية الحاكمة، لا تبدي أية إشارات للتخلي عن سعار ثنائية الهجرة والاستيطان. وفي كثير من الأحيان يعتريها التبلد واللامبالاة، إزاء ما يعانيه المستجلبون من مشارق الأرض ومغاربها في غمرة الحياة، التي سيقوا إليها سوقا في دولة استعمارية مشحونة داخليا بكل الموبقات، ومحفوفة خارجيا بالعداء.
الشاهد عموماً، أن بنية التجمع الصهيوني السكانية والثقافية والتاريخ الأسود لعلاقاته بالجوارين الفلسطيني والعربي، وقناعاته العنصرية وحياته المستمرة تحت السلاح وأنماط تحالفاته الخارجية.. لا توفر شروط العيش المشترك في دولة واحدة مع المجتمع الفلسطيني الأصيل.
وإلى أن تتغير الخصائص المعيبة التي تحف بإسرائيل وتغلف وجودها من كل الجوانب، وذلك في تقديرنا رجع بعيد، يظل افتراقها بالمعروف عن الفلسطينيين بحل الدولتين، أفضل الخيارات الممكنة.
كاتب وأكاديمي فلسطيني