لا يمكن في حقيقة الأمر لأي مراقب أو مهتم بشأن الحوار الديني والثقافي في العالم العربي والإسلامي، أن يتجاهل السجال الذي انطلق مؤخرا بعد مذبحة النرويج، ليكشف لنا عن إشكالية جد خطيرة، تلك المتعلقة بالتعايش الإسلامي في أوروبا وأمريكا، وبالمثل التعايش المسيحي في العالم الإسلامي، الأمر الذي يعود من جديد إلى دائرة الحوار بين أتباع الأديان، وكيف أن هذا الحوار بات فرض عين على كل المؤمنين.
ونحن في شهر رمضان الفضيل، شهر تنزيل القرآن الكريم، يتوجب علينا التوقف والتأمل مليا في هذا الحوار الذي دار بين الأرض والسماء، عبر الرسل والأنبياء والكتب المقدسة، من حوار متصل من العزة الإلهية ـ وما أغناها ـ مع الإنسان على الأرض وما أضعفه.
لكن ماذا عن أسس الحوار؟
في تقديري أن الأساس الأول هو محاولة مسح الغبار عن العقائد، حتى تخرج من إطار القطع الأثرية التي لا تقدر بثمن والمكنوزة في المتاحف، والتي يقوم عليها موظفون وكهان أو علماء أو فقهاء يحمونها ويخدمونها، ويذودون عنها على أساس أنهم موظفو الله Les Fonctionnaires de Dieu على حد تعبير الكاتب الألماني Drewermany Eug؛ ذلك أن أخطر ما يصيب أتباع الأديان هو الغرق في المقدس من حيث الطقوس، ومن ثم فراغ النفوس والبعد عن حقائق الإيمان والاكتفاء بمظاهر العيان؛ مما يحصر الشرائع والنواميس الإلهية في دعوات لتبرير قتل الأبرياء باسم الدين، والخلط بين الترويع والإرهاب، وبين حق الدفاع عن النفس والحرية والكرامة وحرية العقل والنقد.
أما الأساس الثاني فهو العدل والتضامن؛ فالمسيحية تدعو للعدل، والإسلام كذلك يجعل من العدل أساس الملك، أما التضامن فبدونه يصبح الحوار كنحاس يطن أو صنج يرن؛ فما فائدة حوار الأغنياء مع فقراء يتضورون جوعًا؟
لذا فإن الحوار إن لم يكن ينشد بناء المدينة الفاضلة كما حلم بها اليوتوبيون، من حيث قيامها على أسس العدل والتضامن، وليس على حراب قيصر المرتكزة على المجد والقوة والمال وفوهات البنادق؛ فليلزم كل منا داره، فذلك أجدى وأنفع.
والأساس الثالث هو الحوار القائم على المودة والحب؛ وفيه "أنا على موعد ليكتمل وجودي بإطلالة الآخر وإقباله لفرح اللقاء والوجود"، وعنده كذلك "أنا أحب وأعرف الآخر، إذن أنا موجود".
وكذلك فإن المؤمنين من المتحاورين، على اختلاف أديانهم، مطالبون اليوم بمواجهة أزمة كرامة الحياة التي تجب صيانتها بإجلال الأمومة، ورفض الإجهاض، والتقدير الصحيح للمعوق والمريض، والحب النير الذي يجب أن يحاط به المحتضرون، والرفض الجريء لكل أنواع ما يعرف بالقتل الرحيم.. وقبل هذه وفيها وبعدها، الاحترام المتبادل لعقيدة الغير وإيمانه ومعتقده إلى أقصى حد ومد.
والمسلمون والمسيحيون واليهود مواجهون بحتمية الحفاظ على كرامة الإنسان؛ فلا يرغم إنسان على فعل ما يخالف ضميره في الشؤون الدينية، ولا يمنع من العمل الفردي أو الجماعي ضمن الحدود الصحيحة، بحسب ضميره في السر أو في العلن.
إضافة إلى ما تقدم، هناك دافع آخر وهو التبادل المتزايد بين الشعوب، نتيجة تطور وسائل الاتصالات؛ فقد أصبح تعدد الديانات حقيقة تفرض نفسها، وبات الانغلاق على الذات أو الاكتفاء شبه الذاتي مستحيلاً. ولا شك أن حالة التعددية الراهنة لا تكتفي بالتسامح، فهذا كان في زمن كانت فيه الديانات والثقافات مكتفية ذاتيا، بسبب تجمعها في مناطق جغرافية معينة، في حين أن شرائح كبرى من الشعوب اليوم تعي بتزايد الغنى الموجود في جميع الحضارات والأديان؛ لذا فإن التعايش لم يعد كافيا؛ بل لا بد من التفاعل والعمل المشترك في سبيل الخير العام، ولا سيما السلام والعدالة.
ويبقى في النهاية التساؤل الهام: هل طريق الحوار هو طريق سخاء رخاء معبد للسائرين فيه؟
وفي الأحوال فإنه يمكن أو يصح الدخول إلى حالة الحوار بين أتباع الأديان السماوية، وحتى الشرائع الوضعية في ظل ضغوط نفسية أو غير نفسية؛ ذلك أن الحوار مثل الصداقة، لا يقوم إلا نتيجة الحرية والاختيار الحر، ثم إن الحوار يفترض تضامنا مع الطرف الآخر والابتعاد عن موقف الشك أو رفض ما يأتي به الآخر أو ما يطالب به؛ إذ يبدأ بنظرة حق إلى مطالب الآخرين، وشعور حقيقي بهمومهم وأوضاعهم؛ لذا فإنه لا بد للمحاوِر من نظرة احترام كلية لشريكه على أساس المشاركة الفعلية، ولا بد للمتحاورين من التحرر من ثقل الأحكام المسبقة أو التصورات النمطية، ولا بد لهم كذلك من تربة نفسية سليمة، قوامها الاستعداد للتعلم من الآخر؛ لتنمية لقاء روحي عميق يحث كل طرف على أن يتقدم في فهم إيمانه وترجمة ذلك في الحياة اليومية.
ويبقى القول ـ وكما تقول الصوفية ـ بأن "الناس عيال الله"، لكن بعضًا من عياله أراد الوصول بنا إلى نهاية التاريخ وصراع الحضارات وتناحر الأديان؛ وخاصة بعد أن فعل تجار الحروب ودعاة الموت وزارعو الفتنة أدواتهم القميئة بين البشر، تنظيرا وتقتيلا.
إنها دعوة لرسم تباشير الصباح على جبين فجر حمل ليلُه الكثير من الترويع والتعصب، وهدد المستقبل في أعز ما تملكه الإنسانية.. فهل يمكن للعالم بشرقه وغربه، بمسلميه ومسيحييه ويهوده أن يجعلوا من حادثة النرويج الأخيرة منطلقا إيجابيا ـ على مرارة الحادث ـ لترسيخ فكرة الحوار الذي يقود للتعايش والوفاق، لا للكراهية والافتراق؟