هل تذكرون حكاية الأب الذي نهر ابنه عندما سمعه يتكلم اللغة العربية الفصحى، داعياً إياه إلى عدم التحدث باللغة المكسيكية؟

كانت وقتها مجرد طرفة، يوم أن كانت المسلسلات المكسيكية هي المسيطرة على ساحة المسلسلات التلفزيونية، وكانت دبلجة هذه المسلسلات تتم باللغة العربية الفصحى، حتى حسبها ذلك الأب الطيب مكسيكية، وكان الصغار يتأثرون بها وبمسلسلات الرسوم المتحركة التي كانت هي الأخرى تدبلج بالفصحى أيضاً.

 لكن هذا الأمر لم يرق للبعض كما يبدو، فبدأ التحول إلى استخدام اللهجات المحلية في الدبلجة، ثم كان التحول الأكبر نحو المسلسلات التركية، ولم نعد نرى وجوداً للعربية الفصحى، لا في المسلسلات المدبلجة، ولا في أفلام الرسوم المتحركة التي أصبحت لها قنواتها المتخصصة ولغتها الخاصة، كما أصبح لها مشاهدوها المدمنون على برامجها المتأثرون بشكلها ومضمونها.

تذكرت هذه الطرفة ونحن على مشارف الاحتفال بيوم اللغة العربية، الذي اختارت له "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" الأول من شهر مارس من كل عام، علماً أن التاريخ الذي كان مقترحاً للاحتفال به هو الثامن عشر من شهر ديسمبر من كل عام.

وهو اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1973 قرارها رقم 3190، الذي تم بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة كلغة سادسة، في حين كانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) قد اتخذت عام 1999، في الدورة الثلاثين من مؤتمرها العام، قرار الإعلان عن يوم عالمي للغات الأم، اعترافاً بأهمية التعدد اللغوي.

وتم وقتها تبني مشروع القرار الذي تقدمت به "بنغلاديش"، بتخصيص يوم الحادي والعشرين من شهر فبراير من كل عام للاحتفال بهذا اليوم، اعترافاً بالتضحية التي قدمتها "بنغلاديش" من أجل قضية اللغة الأم في مثل هذا اليوم من عام 1952م، وإحياء لذكرى الذين ضحوا بحياتهم في هذا اليوم في ما عرف بـ"حركة اللغة البنغالية"، وشكل الإشارة الأولى للخلاف بين الجزء الشرقي والجزء الغربي من باكستان قبل انفصالهما.

وكما جار الزمن على المسلسلات المكسيكية فانحسر الطلب عليها، جار الزمن أيضاً على اللغة العربية الفصحى في المسلسلات التي حلت محلها، فلم تعد هي اللغة المستخدمة في المسلسلات المدبلجة، وأصبح الحنين إلى المسلسلات المكسيكية صنواً للحنين إلى اللغة العربية الفصحى، التي فقدت بانحسار الطلب على المسلسلات المكسيكية، حليفاً شجع الكثيرين على التحدث بها، حتى ولو من باب التقليد الأعمى.

"إن التحدث مع شخص بلغة يفهمها أمر يلامس عقله، أما التحدث معه بلغته الأم فإنه أمر يلامس قلبه". هكذا لخص المناضل الإفريقي "نيلسون مانديلا" قضية الاهتمام باللغة الأم، وحدد الفرق بينها وبين أي لغة ثانية، مهما كانت درجة إجادتنا للغات الأخرى.

وهذا ما يفسر لنا أن هناك لغات في العالم لا يتحدث بها سوى عدد محدود من البشر، مثل لغة "ليميرج" التي يتحدث بها سكان جزيرة "فانواتو" الواقعة جنوب المحيط الهادئ، على بعد 1750 كيلومتراً من أستراليا، وهي لغة تتكون من أربع لهجات مختلفة، لا يستطيع التحدث بها بطلاقة سوى شخصين فقط، الأمر الذي يضعها على رأس أكثر لغات العالم المهددة بالانقراض.

وتأتي بعدها في الترتيب لغة "شيميهوفي" التي تعتبر إحدى لغات قبائل السكان الأصليين التي تعيش على ضفاف نهر "كولورادو" في الولايات المتحدة، حيث يبلغ عدد من يتحدث بها بطلاقة ثلاثة أشخاص فقط، جميعهم تعدوا سن الأربعين.

أي حديث عن اللغة الأم وأهميتها لن يخرج عن هذا الإطار، وهو حديث مكرر ومعاد، إذ لا يمكن للبشر جميعاً أن يتحدثوا لغة واحدة، مهما كانت درجة انتشار هذه اللغة وسهولة تعلمها.

حتى محاولة طبيب العيون البولندي "لودفيك زامنهوف" اختراع لغة تواصل سهلة يتحدث بها جميع البشر، لم تلق النجاح الذي كان متوقعاً أن تلقاه، فحين قام "زامنهوف" أواخر القرن التاسع عشر، باختراع لغة أطلق عليها "الإسبرانتو" تكتب بالأبجدية اللاتينية، لقيت رواجاً في البداية لكنها ظلت لغة غير رسمية.

وفي بداية القرن العشرين كان مقرراً أن تكون "مورسنت الحيادية" التي أصدقكم إنني لا أعرف أين تقع، أول دولة في العالم تستخدمها كلغة رسمية، كما كانت هناك دويلة صغيرة على جزيرة اصطناعية تسمى جزيرة "روست" اعتمدتها لغة رسمية عام 1968.

وكان هناك حديث في الصين بين بعض الفرق السياسية، بعد ثورة شينهاي عام 1911، لتغيير اللغة الرسمية إلى "الإسبرانتو"، لكن هذا لم يحدث، ولو كان قد حدث لأصبحت هذه اللغة واحدة من أكثر اللغات استخداماً في العالم الآن.

ويبقى الحديث عن الهوية هو الطاغي ونحن على مشارف الاحتفال بيوم اللغة العربية في الأول من شهر مارس، وهي مناسبة ندعو من خلالها حماة العربية إلى تكريم كل من ساهم بجهد في نشر هذه اللغة والمحافظة عليها، لذلك نتمنى على "جمعية حماية اللغة العربية" في دولتنا.

وعلى رأسها الصديق بلال البدور، أن تقوم بتكريم من قام بدبلجة تلك المسلسلات في الزمن المكسيكي الجميل، عندما كانت نجمات تلك المسلسلات، أمثال "كاساندرا" و"روزاليندا" و"ماريا مرسيدس"، يتكلمن العربية الفصحى بطلاقة لا يجيدها أبناؤنا اليوم، كما ندعو هؤلاء الأبناء إلى التحدث بتلك اللغة التي حسبها ذلك الأب الطيب مكسيكية، فلم يعد الأمر مجرد طرفة نستدر بها الضحك، وقديماً قالوا: "شر البلية ما يضحك".