يفتح تأسيس الكاتب والأديب عبدالغفار حسين لكرسي في الأدب العربي بجامعة زايد الباب للحديث عن الوقف التعليمي وأهميته، وهي الأهمية التي أكدها معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، خلال توقيع اتفاقية تأسيس الكرسي الأسبوع الماضي، عندما أشار إلى أهمية استثمار الدور الفاعل للوقف في دعم المنظومة التعليمية في المجتمع، مثمناً ريادة قطاعات الأعمال والرموز الوطنية في تفعيل هذا الدور بجامعة زايد، حيث يساهم في تعميق مبادئ التكافل والتضامن الاجتماعي، والسعي المستمر لبناء مجتمع ناجح، يتميز بمشاركة الجميع، ويجسد المكانة المرموقة للتعليم والمعرفة والاقتصاد التنموي لدى الدولة.

لا أحد يستطيع أن ينكر الدور الكبير الذي قامت به الحكومة في إرساء قواعد التعليم في الدولة بمراحله المختلفة، ولا الميزانيات الضخمة التي رصدتها وترصدها لإنشاء المدارس والجامعات، الأمر الذي جعل من مؤسسات التعليم في الإمارات منارات شاهدة على الاهتمام الذي توليه الدولة لقطاع التعليم والمعرفة، وهو ما قد يدفع البعض إلى التساؤل عن مدى حاجة هذا القطاع إلى الوقف التعليمي.

هنا يجب أن نعود إلى كلمة معالي الشيخ نهيان بن مبارك الذي واكب مسيرة التعليم لأكثر من ثلاثة عقود مضيئة، ترك خلالها على مؤسسات التعليم العالي بصمات واضحة ومميزة لا يمكن أن تخطئها العين، وكان له دور بارز في هذه النهضة التي يشهدها هذا القطاع الآن، وفي التخطيط لدفع مسيرته إلى الأمام لعقود طويلة مقبلة.

حين يشير معاليه إلى مساهمة الوقف التعليمي في تعميق مبادئ التكافل والتضامن الاجتماعي، والسعي المستمر لبناء مجتمع ناجح يتميز بمشاركة الجميع، فهو يتجاوز البعد المادي لهذا الوقف إلى البعد الفلسفي، وهو بعد له أهميته من وجوه عدة؛ أولها ثقة المجتمع في مؤسسات التعليم ومقدرتها على رفد الوطن بمواطنين مؤهلين قادرين على الإسهام في دفع عجلة البناء والتنمية إلى الأمام، هذه الثقة التي تحتاجها المؤسسات التعليمية كي تشعر بأهمية الدور الذي تؤديه للوطن، وتعمل على ترسيخه وتطوير مناهجه وآلياته ووسائله.

 وثانيها تكريس قطاعات الأعمال والرموز الوطنية منارات يقتدي بها الآخرون في البذل والعطاء والمشاركة المجتمعية، وهو تكريس له أهميته في المجتمعات الحضارية المتقدمة التي تولي هذه الإسهامات ما تستحقه من اهتمام.

فكرة الوقف التعليمي ليست فكرة حديثة بالتأكيد، فقد عرفت في العالم الإسلامي منذ عهد الخليفة العباسي المأمون، عندما أنشأ "بيت الحكمة" في القرن التاسع الميلادي، كما أنها معروفة في المجتمعات الغربية منذ قرون عدة، لكن اهتمام المسلمين بها تراجع، في الوقت الذي تزايد فيه اهتمام غيرهم بها، حتى غدا 90% من الجامعات الغربية تدعم كلياً أو جزئياً بأموال الوقف التعليمي الذي يلقى اهتماماً متزايداً به من قبل رجال الأعمال وفئات المجتمع المختلفة.

وتذكر الإحصائيات أن حجم هذا الوقف يبلغ في مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة الأميركية 118.6 مليار دولار، وفي الجامعات الكندية 5 مليارات دولار، وفي جامعة "كيوتو" اليابانية وحدها 2.1 مليار دولار، وفي 10 جامعات بريطانية فقط 30 مليار دولار! ولعل جامعة "هارفارد" الأميركية تمثل أفضل مثال للجامعات القائمة على وقفها الذي تأسس عام 1636م، فسميت باسم "جون هارفارد" الذي أوقف كل ثروته ومكتبته للكلية التي تحولت عام 1870 إلى جامعة تعتمد على الأوقاف الخاصة، حتى وصلت هذه الأوقاف إلى 34.9 مليار دولار، مكونة من 11 ألف وقف.

ويغطي العائد من هذه الأوقاف ثلث نفقات الجامعة، أي أكثر من 1.1 مليار دولار، يتم توزيعها بين مساعدات مالية للطلاب، ورواتب أعضاء هيئة التدريس، وصيانة المرافق.

جامعة زايد التي شهدت الأسبوع الماضي تأسيس "كرسي عبدالغفار حسين في الأدب العربي" هي أول جامعة حكومية في الإمارات تؤسس وقفاً تعليمياً، وهي تعمل بهذا على تكريس تقليد عالمي يوثق أواصر العلاقة بين الجامعة والمجتمع، ليس بهدف تعزيز الموارد المالية للجامعة فقط، وإنما بهدف تعزيز الشراكة بينها وبين أفراد المجتمع وقطاعاته المختلفة، سعياً إلى الارتقاء بخدماتها كي تضاهي أعرق جامعات العالم وأشهرها وأكثرها تطوراً، لأن جامعة في مكانة "هارفارد" التي تعد واحدة من أقدم وأعرق جامعات العالم وأفضلها، وأكثر جامعة في العالم حصل خريجوها وباحثوها على جوائز نوبل وغيرها من الجوائز والأوسمة العالمية.

وقد تخرج منها سبعة رؤساء للولايات المتحدة الأميركية، ودرس فيها "بيل غيتس"، و"مارك زوكربيرج" مؤسس موقع "فيسبوك"، جامعة كهذه ربما لا تكون بحاجة إلى أوقاف، ومع ذلك فهي أكبر جامعة في العالم من حيث الوقف الذي تملكه، الأمر الذي يؤكد أن فكرة الوقف التعليمي ليست قائمة على الاحتياج بالدرجة الأولى.

وإنما على المشاركة المجتمعية، هذه المشاركة التي دفعت عبدالغفار حسين، وعدداً نعتز به من رجال الأعمال والشخصيات وقطاعات الأعمال في دولة الإمارات إلى المشاركة في هذا العمل الحضاري، ليثبت رجال دولتنا المخلصون ومؤسساتنا الوطنية، أنهم لا يقلون وطنية وإخلاصاً ورقياً عن أقرانهم في الدول المتقدمة، كي نطمئن على مسيرة دولتنا، وسلامة نهجها، وقوة نسيجها الاجتماعي الذي هو سر نجاحها وقوتها، وأساس نهضتها.

وأخيراً.. فإن الأوقاف التعليمية هي أعمال خيرية أيضاً، لا تقل قيمة ومكانة ومثوبة عند الله تعالى عن بناء المساجد وحفر الآبار ورعاية الأيتام التي يعتقد البعض أنها وحدها التي تجلب الأجر والمغفرة في الدنيا والآخرة.