تستدعي الأحداث الأخيرة في مصر طرح أكثر من علامة استفهام مزعجة للأسف، وفي مقدمتها؛ هل ما يجري في الشارع المصري من اتجاهات جهوية وعرقية وطائفية أمر عشوائي أم مؤامرة مقصودة ومدبر لها بليل بهيم؟ وإذا كان ذلك كذلك، فمن الذي يقف وراء مثل تلك المقاصد السيئة التي تريد تفكيك وتفخيخ مصر؟
آخر تلك الحلقات الجهنمية، وكما تابع العالم أجمع، كان ملف الأقباط الذي تعرض فيه الجسد المصري كله لجروحات ثخينة.
ولعله من نافلة القول الإشارة اليوم إلى تلك الحالة الرائعة من المناعة المجتمعية التي ظهرت أيام ثورة يناير، عطفا على عدد الشهداء المسيحيين الذين سقطوا فيها، وقد اعتبر الجميع أن تلك هي بداية جديدة للعلاقة بين الأقباط والمسلمين، تجب ما قبلها من أحداث.
غير أنه ومن أسف، أن عددا وافرا من الطعنات وجه إلى قلب مصر، من خلال الضربات التي تعرض لها الأقباط في ماسبيرو ومذبحته الشهيرة، ومن خلال هدم وحرق كنائسهم في صول، واطفيح، والماريناب، والانتقاص من وطنيتهم عبر رفض ترشيح محافظ قبطي لإحدى محافظات الصعيد، وربما كانت الذرائع التبريرية وقتها أن مصر تعيش حالة انتقالية، لكن ما تفسير ما جرى بعد أن استقر الأمر لفصيل بعينه في حكم مصر؟
المؤكد أن ملف الأقباط يمثل صماما من صمامات أمان المجتمع المصري، وهناك حتى الساعة من لا تعجبه مواقفهم الوطنية، ويعمل على إذكاء الفتنة لإلحاق أكبر ضرر بمصر، من خلال أيادٍ مصرية للأسف، تلك التي تنتمي للطرف الثالث، والباحث عن حقيقة هذا الطرف سيجده قريبا جدا من حلقات التنظيمات العالمية السرية، وفروعها في مصر والعالم العربي.
يتساءل المرء لماذا تنطلق فتنة طائفية هذه الأيام التي يستعد فيها نفر قليل من الأقباط لزيارة الأراضي المقدسة في فلسطين، في حين أن ملايين الأقباط يقفون صفا وحاجزا منيعا ضد التطبيع مع إسرائيل، لا سيما بعد أن جدد بابا الأقباط الجديد تاوضروس الثاني، الحرمان والرفض اللذين أقرهما بابا الأقباط الراحل شنودة الثالث، بالنسبة لزيارة القدس في زمن الفصح وأعياد القيامة؟ ألا يوجد هناك ما يدعو للشك؟
على أن الأزمة الكبرى هذه المرة، تتعلق بالأحاديث الدائرة عن تقديم إسرائيل حق اللجوء الديني أو السياسي لعدد من الأسر القبطية، وفتح باب الهجرة لهم لإسرائيل والإقامة فيها، وهو حديث كفيل بإشعال نار الفتنة داخل مصر، ويحتاج للتوقف أمامه لتبيان من يتآمر على مصر.
ربما تجدر بنا الإشارة بادئ ذي بدء، إلى أن الراغبين في الهجرة من مصر اليوم من المسلمين والأقباط على حد سواء، يتجاوزون الملايين، غير أن الأقباط وتحت المخاوف من حكم التيار الإسلامي، يتزايد عددهم وهجرتهم معروفة منذ الستينات، غير أن القول بهجرتهم إلى إسرائيل هو الأمر الجديد والمثير... هل هو أمر حقيقي؟
توجد كارثة كبرى تتمثل اليوم في وجود نحو أربعين ألف مصري مسلم وقبطي في إسرائيل، يعيشون ويعملون من قبل ثورة يناير، وإشكالية هؤلاء أنهم باتوا يحملون الآن وأبناؤهم وأحفادهم الجنسية الإسرائيلية، والتساؤل؛ لمن سيكون ولاء هؤلاء وانتماؤهم الحقيقي في أي مواجهة قادمة مع مصر؟
أما فكرة قبول هجرة الأقباط، فاغلب الظن أنها جزء من حروب الإشاعات التي برعت فيها إسرائيل عبر استخدامها لأذرعها، ومنها للأسف الشديد ذراع الإسلام السياسي، وهذه قضية يطول شرحها.
وفي كل الأحوال، نذكر بأن القوانين الإسرائيلية لا تقبل الهجرة لإسرائيل إلا لليهود فقط، وعليه فإنه قبل أحداث الكاتدرائية ومأساة الأخطاء الرسمية التي جرت فيها من قبل وزارة الداخلية المصرية، كانت عجلة الحرب النفسية تدور ضد مصر وضد الأقباط، وهي حرب تستهدف "تدمير الإنسان المصري عقليا ونفسيا"، ولا مجال للتصدي لها إلا عبر التوعية المستمرة بمخاطر سموم الشائعات وحتمية مواجهتها بالحقائق.
هل يحب اليهود المسيحيين؟ تساؤل ذو طبعة ومسحة لاهوتية، والجواب هو أننا لا ننسى أن اليهود هم العدو الأول للمسيحيين الذين عانوا منهم طيلة سبعة قرون متواصلة قبل ظهور الإسلام. ويكشف التلمود اليهودي عن الروح التي يجب أن يلتزم بها اليهودي إزاء المسيحي، فيقول في ذلك: "باستطاعتك، بل من واجبك أن تقتل أفضل المسيحيين". وما الماسونية وغيرها من التنظيمات العالمية، إلا مؤسسات سرية أنشئت عام 33 ميلادية لمقاومة المسيحية الناشئة سرا، بعد أن صار من المستحيل على اليهود مقاومتها جهرا.
هل نبغي من هذا الكلام الهروب إلى الأمام وتعليق كل أخطائنا الداخلية على شماعة إسرائيل؟
بالقطع لا، فأول مبادئ الإصلاح نقد الذات، وربما جلد الذات، فهناك مشاكل حقيقية للأقباط كاد الجميع يؤمن بأنها ستزول مع بداية عهد جديد، لكن المؤسف أن المشهد تعقد أكثر بفعل جماعات بعينها، لها علاقة مطلقة بأطراف خارجية سمحت بالعبث في أراضينا.
وفي كل الأحوال، ينبغي التنبه إلى الثمن الفادح الذي يمكن لمصر كلها أن تدفعه في حال بقاء الأمور مضطربة والطائفية منتشرة... الثمن هو التدويل، وبالفعل رأينا مواقف دولية تتخذ جهة مصر، وسياحة عالمية تلغى، واقتصادا يتداعى، ومستثمرين يهربون، وحرائق تشتعل.
هل يريد فصيل بعينه أن يضع مصر بين عشية وضحاها تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولاحقا نرى سيناريوهات التقسيم والحروب الأهلية؟
مهما يكن من أمر محزن جرى ما بين الخصوص والعباسية، فإن وحدة المصريين العقلاء ومودتهم المتبادلة ووعيهم المجتمعي الصحيح، وحدها مفاهيم قادرة على إبطال فعل المؤامرة الخبيث.