لعلّ مصر كانت ولم تزل في مقدّمة البلدان المنفتحة على العالم، ولم يعرف الناس فيها إلا الحريّة والسماحة وتقبّل الأشياء.. مصر لم تعرف إلا حياتها المتدفّقة في الليل والمتوّثبة في النهار.. مصر هي المنطلقة دوماً نحو العالم، وهي أوّل من افتتحت الحداثة في الشرق، وأوّل من عقدت الصلات مع الغرب..

مصر هي الوحيدة التي استقبلت منذ مائتي سنة، كلّ الأطياف الوافدة لها من كلّ الأجناس، فاجتمع فيها الشركس والأتراك والطليان واليونانيون والمالطيون والسوريون والمغاربة والعراقيون والحجازيون والسودانيون والأفارقة.. وغيرهم كثير، وتلاقوا في مجتمع لا يعرف إلا القناعة والبساطة والوداعة والابتسامة وخفة الظل..

مصر التي عرفتنا بثقافاتها وآدابها وفنونها، ونجحت بذكاء كبير في نشر كلّ جمالياتها في القرن العشرين.. هذه البلاد لا يمكنها أن تسجن وراء قضبان، أو أن تقيدّها إرادة نفر من المتعصّبين، كي يقف على أبوابها سجّانون منغلقون متعصّبون حاقدون كارهون للحياة لا يعرفون حتّى الابتسامة.. ومن بؤس ما يفعلون أنهم يمثّلون أدوار اللعبة الديمقراطيّة، من دون أن يؤمنوا بالديمقراطية الحقيقية أبداً.

علينا أن نفهم الديمقراطيّة بأوسع معانيها، والتي لا تؤمن بها أبداً "جماعات" و"فرق" تتفوّق أجندتها الإيديولوجيّة على مبادئها الوطنيّة! وهم صنّاع مصائب، وإذا لم تكن لهم معرفة ببلدانهم، فكيف تمكنهم معرفة تجارب العالم؟! وهناك من يدافع عنهم باسم التجرّبة الديمقراطيّة وباسم الشرعيّة، من دون فهم معنى الشرعيّة الذي كرّسه القانون الدستوري.. الشرعيّة، هنا تقرّها تجارب انتخابات مدنيّة وتصويت في صندوق انتخابي.. ايّة شرعيّة هذه التي تتمّ من خلال المبايعة التي يؤمنون بها؟ وما موقفهم من القوانين المدنيّة حتى يتداولوا السلطة بواسطة الاستفتاءات المدنية؟

إن كلّ الأحزاب الدينيّة أو الطائفيّة أو العقائديّة لا تؤمن بالديمقراطيّة أبداً، فكيف تمارس الانتخابات؟ باستثناء حزب التحرير الإسلامي الذي يؤمن بالمبايعة ولا يؤمن بالديمقراطيّة.. فهو صادق مع نفسه ومع الآخرين! إيران الإسلاميّة مثلاً لا يوافق نظامها الحاكم على ترشيح غير من لا يدور في فلكه، فكيف تؤمن بالديمقراطّية؟ وأين هي شرعيّة نظامها؟

أية شرعيّة هذه والدساتير الجديدة تفصلها وتخيطها أحزاب أو جماعات حاكمة وهي لا تعكس إرادة كلّ الناس؟ ناخبون قد غرقوا بالتعصّب والانحياز لجماعة هدفها السلطة بأيّ ثمن، كي تسجن كلّ المجتمع في سراديب معتمة، فكيف يمكن سجن مصر وكلّ مواريثها المدنيّة والثقافيّة؟

إنهم يقدّمون عقائدهم ومذاهبهم وطوائفهم على أوطانهم ومبادئهم الوطنيّة! ايّة شرعيّة هذه لكي تحكم جماعة، فتذهب مصر كلهّا إلى الدمار، جماعة لا برامج حياة لديها، ولا مشروع مدنياً متقدّماً عندها؟ الخوف أن يزحف العنف إلى مصر - لا سمح الله - كي تلحق بكل من العراق وسوريا..

إن ثلاثين سنة تنتظرنا، ستمر فيها مجتمعاتنا بمخاض تاريخي صعب!

المشكلة ليست في صنائع يقودون بلادهم بغباء، بلا فكر، وبلا مرونة، وبلا مشروعات، بل الأمر يخصّ منظومات سياسيّة واجتماعيّة.. ومجتمعاتنا لم تعرف حتى اليوم آليات الديمقراطيّة، فكيف تطبق مفاهيمها؟

الديمقراطيّة فلسفة حياة كاملة، تبدأ بتربية الأطفال وتنتهي بسيادة القانون، وهي ليست مجرد صناديق اقتراع! وعليه، لا يمكن لأي حزب مؤدلج، ولا لأي شخص متعصّب أن يؤمن بالديمقراطيّة والحرّيات، وأن يمارس وسائل "ديمقراطيّة" بآليات مدنيّة! بل إنّ هذه الآليّات والمفاهيم هي وسائط من صنع الغرب، وقد تطوّرت في القرن العشرين، وهو يحاربها على مدى عقود طوال من السنين باسم "جاهليّة القرن العشرين"!

الشرعيّة لا يمكن أن يمتلكها الحاكم لوحده بكونه منتخباً من الملايين، بل الشرعيّة ينبغي أن يمتلكها المجتمع كلّه والدولة ومؤسساتها.. لا يمكن أن يكون الحاكم مدعيّاً لديمقراطيّة مزيّفة وحده، بل عليه أن يجعل كلّ الشعب يعيش حياة ديمقراطيّة.. لا يمكن لحزب أن يسمّي نفسه بـ"الحريّة والعدالة"، وهو لا يعترف بالحريّات الشخصيّة والدينيّة والفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة..

ثمّة مجتمعات مؤهّلة كونها مشرعنة ديمقراطيّاً، في حين تمارس الديمقراطيّة في مجتمعاتنا لوصول فلان أو علان للسلطة كي يخرّب الحياة باسم الشرعيّة! المعضلة أن يكون هذا الأسلوب سبباً في انقسام المجتمع إلى شظايا متعددة، بعد أن يختبئ الرئيس المنتخب وراء جماعة كي تحكم بدلاً منه أو من خلاله، أو يعلن الآخر نفسه ممثلاً لطائفة تحكم باسمه كما هو حال العراق، أو يتبجّح الآخر بأن أجندته فوق علم البلاد كما هو حال إيران..

وأخيراً دعوني أقول إنّ مصر لم تستطع أبداً العيش سنة واحدة داخل شرنقة أو وراء قضبان.. كان لا بدّ لها أن تتحرّر. ولكنني أرجع لأقول إن مجتمعاتنا اليوم قاطبة تمرّ في مخاض تاريخي عسير، سيدوم قرابة ثلاثين سنة، وسيزدحم بالمشكلات الصعبة، ولن تنفرج الأمور إلا بمتغيّرات يصنعها جيل قادم، يدرك كم ستكون حاجته ماسّة وضروريّة للتعامل مع المستقبل بدل البقاء في دوّامة الماضي.. وعندما يفهم أنّ الضرورة تقضي بأن يتعلم شيئاً من تجارب الآخرين، دون البقاء في سراديبه المعتمة يأكل نفسه بنفسه..